الخميس، 31 يناير 2019

لغز الحريم الأوروبي،


فجأة، اتضح لي لغز الحريم الأوروبي، داخل معبد للاستهلاك، أقصد ذلك المتجر الكبير في مدينة نيويورك، حينما أخبرتني البائعة بلهجة كاهنة عدم وجود تنورة على مقاسي، لأن جسمي يحمل وركين واسعين جداً، تضيف مفسرة الأمر.
"على امتداد كل هذا المحل التجاري، الذي يضاعف مئة مرة بازار إسطنبول، لا توجد لديكم تنورة تتناسب ومقاسي؟ ربما تمزحين!".
أشك بقوة في أن تكون هذه السيدة الأنيقة كسولة. شيء إذن، يمكن فهمه. لكنها، ستلح على النفي بصيغة متعجرفة:
"إنك ضخمة جداً...
-أنا ضخمة جداً قياساً إلى ماذا؟ أجبت، وأنا أركز عليها انتباهي، مدركة في الوقت نفسه إمكانية أن أتواجد بغتة بجانب هوة ثقافية حقيقية.
- مقارنة مع القياس 38 (سيأخذ صوتها نبرة فتوى غير قابلة للاعتراض). فإن القياسين 36 و38 يمثلان المعيار، أو بشكل دقيق النموذج الأمثل؛ تواصل حديثها تحت تحفيزات نظراتي الاستفسارية.
فالمقاسات النموذجية، كما هو الأمر معكم، غير متوفرة إلا في محلات تجارية خاصة".
كانت المرة الأولى التي أستمع فيها إلى بلاهة كتلك: في الشارع المغربي، كانت الضخامة السخية لقطر خصري، وحتى عهد قريب (على الرغم من العمر!)، تثير تعليقات إعجاب مستفيضة. ومن فرط، سماعي للمدائح التي تلاحقني مثل عطر داخل كل المدن، ظننت أن الكون بأكمله يقتسم الإجلال نفسه. ولم تُتَح الفرصة أمامي كي أتساءل عن وجود منطقة ما في العالم تقطع مع هذا التصور. بالتأكيد، تمر الأعوام ويضعف حجم التعليقات. واليوم، حينما أسير وسط المدينة، لا أصادف أحياناً إلا الصمت الأصم. أحدد، مع ذلك، أن الإطراءات تتجه إلى طيفي عبر نظرة من الخلف، بينما يتغير الأمر حينما يكون الوضع من الأمام، ما دام وجهي لم يتجاوب في يوم من الأيام مع المعايير الرائجة عندنا. أجبرت، باستمرار على مواجهة ملاحظات مزعجة، من قبيل (الزرافة!)، فقد تبين لهم بأن عنقي طويلة جداً. أكثر من ذلك، اكتشفت حينما قدمت إلى مدينة الرباط قصد الدراسة، أ ن جمالي الكبير يتأتى تحديداً من وضع التحدي الذي تبنيته كي أقطع مع كل ابتزاز جمالي. رفاقي يصابون بالدهشة لعدم اكتراثي بمدائحهم. ما زلت أذكر جوابي لأحدهم: "أتدري، يا عزيزي كريم، أن كل ما أحتاج إليه لكي أعيش، قليل من الخبز والزيتون والسردين. وإذا اعتبرتَ بأن عنقي طويلة جداً، فذلك شأنك".
على أية حال، فلا شيء كان قطعياً بالمطلق في شوارع المدينة، بل كل أمر قابل للتفاوض. أما، داخل محل تجاري راقٍ في نيويورك، فالوضع مختلف! يجب الاعتراف بأنني فقدت كل طمأنينتي. ليس لاعتيادي، على ثقة دائمة بنفسي، لكن، وأنا أسير بين أروقة جامعة محمد الخامس، لم أكن استفسر كل لحظة عما يعتقده الناس تجاهي، وحينما أسمعٍ غزلاً مخادعاً، فلا أصده، لكن ذاتي تنتفخ على الفور مثل منطاد. وعموماً، لا أنتظر شيئا من الآخرين. هكذا، أجد نفسي دميمة حينما أكون متعبة أو مريضة. بينما أحس بأنني فاتنة حينما يكون الجو صحواً، أو أتمكن من كتابة صفحة متميزة بشكل خاص. لكن في هذا اليوم، وأنا متواجدة في المحل التجاري الذي دخلت إليه بهدوء زبونة متسيدة، مستعدة لإنفاق النقود؛ أتدمر فجأة، فقوام خصري، الذي شكل حتى ذاك الحين علامة نضج متألقة، انخفضت قيمته إلى درجة التشوه.
"من يحدد النموذج؟" سألت البائعة الأنيقة، سعياً إلى استعادة شيء من الثقة، عبر الطعن في القواعد. لا أمنح الآخرين أبداً فرصة أن يفرضوا على ما يجب أن أكونه. لقد صادفت باستمرار أشياء من هذا القبيل وأنا فتاة صغيرة. ففي مدينة فاس، إبان العهود الماضية، كانوا يبدون إعجابهم بالمراهقات السمينات، وتكررت دائماً هذه اللازمة، بأنني طويلة ونحيفة جداً، بوجنتين بارزتين كثيراً، وعيناي مائلتان جداً. لذلك، استحوذ على أمي هاجس أن أفشل في العثور على زوج. تمسكت بضرورة توجه اهتمامي إلى الأدب أقصى ما يمكنني الأمر، بالموازاة مع فن التطريز، حتى أكون دائماً قادرة على الاكتفاء بنفسي. ثم أصرخ متمردة:
"أمي العزيزة، بما أن الله أرادني هكذا. فكيف، يمكنكم القول إنني دميمة؟" وفي الحال، تنزوي المرأة المسكينة إلى الصمت. كيف تتجرأون على انتقاد مخلوق إلهي؟ وجراء اقتناعي بمظهري الغريب كعطاء ما فوق طبيعي، فقد عشت كل لحظة مع هذه الفكرة، وسط مدينة فاس التي تخنقها النزعات المحافظة (وهي كذلك دائماً، من خلال الأصداء)، لكن دون أن تتزعزع جذور ثقتي بنفسي، التي كان من المهم ترسيخها، على الرغم من عجزها عن الوصول إلى صلابة الأطواق الفضية الملتصقة دائماً بيدي، في مواجهة مع كل اختبار للمعايير. الثقة بالذات تشبه بالأحرى ضوءاً صغيراً متذبذباً، يجب أن تتعهد به دون توقف، وتكفيه شتيمة لإثارته.
-"ومن قال إن كل العالمٍ يتحتم عليه البقاء عند حدود خصر مقاسه 38؟" أصر، بلهجة تهكمية وأنا أهمل قصدا الإشارة إلى الرقم 36. فإبنة أخي، التي لها من العمر 12 عاماً وفخذا وقواق، يبلغ نطاق خصرها 36!
تأملتني البائعة بشيء من الاضطراب: "المعيار أو بالأحرى القوام المثالي، نصادفه في كل مكان بين صفحات المجلات وعبر شاشات التلفاز وعلى الملصقات؛ فبالتأكيد، تعرفون كالفن كلاين (Calvin Klein)، رالف لورين (Ralph Lauren) فيرساتشي (Versace)، أرماني;Armani)، فالنتينو (Valentino)، كريستيان لاكروا (Christian Lacroix)، جان بول غوتييه ;Jean Paul Gaultier)، فكل المجلات الكبيرة، تمتثل للنموذج، ولو تبنت مقاييس ما بين 46و48 مثلما تفعلون، فأعتقد بأنها ستنتهي إلى إعلان إفلاسها".
سكتَت لحظة، ثم تطلعت نحوي بفضول. "حقاً، أنا متأسفة". لقد كانت صادقة كما يظهر ومنشغلة أيضاً. لذلك، أسرعَت تجاه زبونة تستفسر عن معلومة، ثم عادت إلي: "من أين قدمت؟" هنا، لاحظت أنها تقاربني سناً، تناهز عقدها السادس؛ غير أن جسدها تميزه رشاقة فتاة في السادسة عشرة من عمرها. فستانها، بلون أزرق غامق، من منتوجات شانيل (Chanel) يزينه طوق صغير على طريقة "كلودين في المدرسة". حزام، ترصعه لآلئ يرسم رشاقة خصرها، شعرها قصير لامع، أما معالم وجهها فتكشف عن تطرية ملائمة، كل ذلك اختزل عمرها إلى النصف.
أجبت قائلة: "لقد أتيت من بلد، تخضع فيه الملابس إلى قياس ثابت. ذلك، أنني أبادر بشراء قطعة ثوب، ثم تصنع منه الخياطة أو الحرفية الفستان أو الجلابية التي أبتغي دون معرفة مسبقة بمقاسي. في المغرب، لا شخص يهتم بالأمر، بما أنني أؤدي واجباتي الضرائبية. بل لا أستطيع أن أحدد لكم بالضبط مقاسي، فأنا أجهله كلياً".
انفجرت ضاحكة، وهي تؤكد أن بلدي يوحي حقاً بكونه جنة للنساء المتعبات. فسألتني بصوت يلفه الارتياب: "تريدين كذلك القول إنكن بكل بساطة لا تقمن بعمليات للوزن؟ هنا، توجد نساء فقدن وظائفهن نتيجة لذلك". إنها تمزح، لكن ملاحظتها تخفي حقيقة قاسية. لقد مست الجوهر: الخصر 38. هو أيضاً عقال حديدي زجري، مثله مثل الحجاب الأكثر سُمكاً. بسرعة، استأذنتُ بالانصراف، كي لا أرغم هذه البائعة اللطيفة على توثيق حدة اعترافاتي التمييزية، كما عبرت عنها داخل وسطها المهني. ربما التقطتنا كاميرا للمراقبة...

ليست هناك تعليقات:

نفسى

 فلنغير نظرة التشاؤم في أعيننا لما حل بنا من محن إلى نظرة حب وتفاؤل لما عاد علينا من فائدة وخير بعد مرورنا بهذه المحن. ما أحوجنا لمثل هذا ال...