يعد “بيتر شويتزر” أحد مؤسسي علم الشفرات السرية في العالم، يتخصص شويتزر في حل الرموز السرية باختبار بسيط من اختبارات التشفير يضمن مدى قوة الأنظمة المؤمنة بهذه الشفرات، بالطبع هذا تحدي عقلي ضخم يتطلب الاتيان بعدد مهول من الحلول المبتكرة لمشكلة شديدة التعقيد ثم اختبار كل حل منها! معمل شويتزر الخاص بهذه المهام المهولة لم يكن عبارة عن مكتب عازل للصوت وبلا نوافذ. بل كان هذا الرجل يقوم بحل هذه الرموز السرية في أثناء قيامه بجولة طويلة على الأقدام أو خلال جلوسه تحت أشعة الشمس مغلق العينين.
لا شك أنك قد قرأت عدة مرات عن هؤلاء العباقرة والمبدعين الذين كانوا يستعينون بالمشي على استلهام أفكار جديدة أو حل معضلات تقابلهم، لقد اشتهر هذا الفعل عن عدد كبير من المبدعين والملهمين والكتاب وكلهم أجمعوا على أن المشي يجعلهم أفضل ويحسن تفكيرهم ويمدهم بحلول غير متوقعة. كثير من المدراء الناجحين يفضلون عقد اجتماعاتهم أثناء المشي حيث تنساب الأفكار بغزارة أكبر وتنبثق حلول لم تكن متوقعة، انها حالة من المرونة التى لا يمكن أن نحصل عليها في مكتب مغلق أو مكان ضيق محصور أو أثناء جمودنا، كأن تحريك أجسادنا بنشاط بدني ممتع وغير مرهق للجسد يضمن تحريك أمخاخنا بنفس السهولة واليسر!
قد تبدو لك هذه المقدمة شاعرية بعض الشيء وقد تظنها مبالغات وقد تظن أنك ربما لا تحتاج هذا الفكر الابداعي في حياتك وفقا لطبيعة أعمالك واهتماماتك.. لكن يبدو أن للمشي جوانب أخرى تتعلق بانقاذ عقولنا المنهكة من فرط التشتت والارهاق العصبي.. المشي ليس أداء كماليا يمارسه المبدعون أو أصحاب المشاريع الملهمة.. المشي حاجة بشرية ماسة للجميع وخاصة في ظل عصرنا الذي نحياه حاليا وهو ما سيوضحه هذا المقال بايجاز قد المستطاع.
في كتابه المؤسس لعلم الانتباه “ركز” يشرح دانيال جولمان مدى التشتيت الذي يعيش فيه البشر حاليا جراء ارتباطهم الوثيق بالاجهزة الالكترونية وانجرافهم مع تيار المعلومات المتقافزة والمتنافرة التى نتلقاها يوميا عبر البريد الالكتروني واشعارات مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تتوقف، وما بين الرسائل النصية على تطبيق الواتساب أو متابعة تعليقات اصدقاءك على فيس بوك أو تويتر فأنت ترهق عقلك بشكل لاتتخيله، ان هذا الكم الهائل من المدخلات التى لا تتوقف تحرمنا “نسبيا وغالبا” من الصفاء الذهني أو القدرة على الـتامل والتحليل المتعمق، وهذا أحد اكبر أخطار التشتت. ان أخطر مساويء التشتت الذي نحياه هو أن يكون تفكيرنا أكثر سطحية مما يجعلنا للأسف أكثر تفاهة.
يقول جولمان: “الفشل في التركيز على شيء واحد، والانتقال الى غيره من شأنه أن يجعل العقل غارقا في دومات القلق المزمن. وهذا يعني من الناحية الطبية أن تصبح عاجزا وبائسا ومشفقا على ذاتك وغارقا في الاكتئاب”
بعيدا عن تفصيلات متعلقة بتحليل الانتباه وأنواعه لا تخدم صلب هذا المقال، أقدم لك هنا وصفة علمية مقننة لتخفيف حدة الارهاقات العصبية التى تصيب مخك بلا توقف جراء الحياة التي نحياها، أعط لنفسك قسط يومي من المشي لتحظى بعقل أهدأ وتفكير أعمق وقدرة أشمل على رؤية المشاكل والتعامل معها.
اننا نمتلك القدرة على التفكير المنظم والتفكير الابداعي بشكل أكبر مما نتصوره ولكن هذه القدرة مدفونة تحت أغلال التشتت الذي نحياه بلا توقف، اننا مرهقون عصبيا بشكل لا ينقطع، يوفر المشي أحد الحلو السحرية والسهلة والمتوفرة لهذه المشاكل.
هذا التوتر يجعل عقولنا “مجهدة” كما ان المجهود البدني العنيف يجعل عضلاتنا مجهدة.. الدواء الفعال لهذا الاجهاد هو الراحة! ان تريح عقلك قليلا هو اجراء فعال وقد يدهشك هذا لكن الطريقة الفعالة لاراحة عقلك هو القيام ببعض النشاط البدني المعتدل مثل المشي!
تنص “نظرية استعادة الانتباه” على اننا نستطيع استعادة قدرتنا على الانتباه والحصول عليها مرة اخرى من لصوص الانتباه اذا استطعنا ان نخرج من دائرة الانتباه الشديد الى دائرة تحرير الذهن وأن نترك انتباهنا عرضه للانجذاب الى كل ما يجذبه” من مثيرات ملهمة وليست مزعجة”، بمعنى اخر أن نترك عقلنا “يهيم” قليلا، العقل الهائم هو كنز قد لا ندرك مدى قيمته .
قد لا تفيدك جولات السير في المدينة للحصول على هذا التحرر ، لان المزعجات التى حولك ستفرض متطلباتها عليك أيضا، بينما المشي في بيئة طبيعية كالتى توفرها المنتزهات أو أي مكان مليء بالمناظر الخلابة كالسحب الحمراء عند الغروب أو مشاهدة الطيور، هذه المشاهد تثير الانتباه “التلقائي” المتواجد في قاع المخ، تثيره باعتدال، مما يتيح لامكانيات عقلنا التى تفكر بعقلانية ومنطق أكثر أن تتحسن، كل هذا يساعد على استعادة الانتباه والذاكرة وتحسين الادراك.
“المشي في الحديقة بين الأشجار يؤدي الى التركيز على المهام المركزة بقدر افضل من المشي في شوارع المدينة”.
إن أعجب ما في هذا الإجراء هو أن تأخذ عقلك المنشغل جدا من هذه الدوامة المرهقة، لتدخله في حالة من التركيز التام على ما يساعد على الاسترخاء، انك تعطي انتباهك الكامل لشيء “غير مشتِت”.
نصائح لجعل المشي أكثر فعالية وتصفية للذهن:
احرص قدر استطاعتك على المشي في الحدائق والمتنزهات البعيدة عن مصادر الازعاج والتشتيت.
لا تستخدم هاتفك الجوال أثناء المشي مطلقا “ما عدا الاستماع الى مقاطعك الصوتية واستخدام تطبيق المشي”.
ركز على ما يريحك، على ما يستولي على اهتمامك ولكنه لا يرهق ذهنك مثل “شعورك بجسدك” أثناء المشي، اترك عينيك لتأمل الأشجار وانعكاس الأضواء على أرضية المضمار، راقب الغروب أو الشروق .. اترك عقلك هائما قدر المستطاع فهذه هي البيئة التى تتولد فيها الحلول والافكار الابداعية.
يبدو جليا من هذا المقال أفضلية المشي فجرا أو قبل الغروب للحصول على المنافع النفسية والذهنية من المشي ” وليس الجسدية فقط” حيث المشتتات في هذا الوقت في أدني تواجدها والأجواء مساعدة على التأمل وتصفية الذهن.
استمع الى مقاطع صوتية مريحة تدخلك في حالة من السكينة والهدوء.
ردد اذكارك اثناء المشي، رددها بـتأمل وهدوء ويقين.
وأخيرا هذه نصيحتي التى لم أندم عليها يوما:
لا تتنازل عن المشي يوميا..
وقت ممتع.