السورة: الحدة، يقول: ولكنه انهزم، وللطعن في أصحابه حدة إذا تذكرها لمس جنبه قائلًا: هل أصابه شيء منه؟ أي إنه انهزم مدهوشًا مرعوبًا لا يدري ما حاله وهل أصابته طعنة نافذة؟ قال بعض الشراح: إنه هرب وبقي من دهشه لا يدري ما يصنع فكان يلمس جنبه هل يجد روحه بين جنبيه من الذهول والفزع، وهذا من قول أبي نواس:
إِذَا تَفَكَّرْتُ فِي هَوَايَ لَهُ
مَسَسْتُ رَأْسِيَ هَلْ طَارَ عَنْ بَدَنِي
(٧١) العذارى: جمع عذارء وهي البكر من النساء، والبطاريق: جمع بطريق وهم قواد الروم، والشعث: جمع أشعث وهو المغبر الرأس، والمراد بهم هنا الرهبان، والقرابين: جمع قربان وهو ما يتقرب به إلى الله والمراد هنا خاصة الملك، والصلب: جمع صليب وسكن اللام على لغة تميم. يقول: إنه انهزم وترك هؤلاء ولم يلتفت إليهم لهول ما رأى.
(٧٢) المستهام: الذي ملك عليه العشق أمره فهام على وجهه، والصبابة: رقة الشوق، يقول: كل منا يطلب الحياة عاشقًا لها محبًّا حريصًا عليها.
(٧٣) يقول: كل من الجبان والشجاع سواء في حب النفس وإن اختلف فعلهما، فالجبان حبًّا لنفسه وإبقاء على حياته اتقى الحرب وترك القتال، والشجاع إنما أقدم على الحرب دفاعًا عن نفسه، وذودا عن مهجته؛ لأنه يخاف على نفسه العدو إن هو قعد عن الحرب أو لأنه إذا أرى من نفسه الشجاعة تحاماه الناس واتقوه، فكان في ذلك بقاؤه كما قال الحماسي — الحصين بن الحمام:وتقول الخنساء:وروي أن الصديق — رضي الله عنه — قال لخالد بن الوليد — وقد ودعه لحرب أهل الردة: احرص على الموت توهب لك الحياة، ومعناه: إما أن الشجاع مهب مرهوب لا يحام حوله، وإما أن ذكره يبقى بعده فيكون كأنه حي كما قال حبيب:وإما أنه إذا استشهد صار حيًّا كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ قال العكبري: وهذا البيت من الحكمة، قال الحكيم: النفس المتجوهرة تأبى مقارنة الذل كل الإباء، وترى فناءها في طلب العز حياتها، والنفس الدنيئة على الضد من ذلك، وروي بدل النفس الحرب.
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ
لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
نُهِينُ النُّفُوسَ وَهَوْنُ النُّفُوسِ
يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَبْقَى لَهَا
سَلَفُوا يَرَوْنَ الذِّكْرَ عُقْبًا صَالِحًا
وَمَضَوْا يَعُدُّونَ الثَّنَاءَ خُلُودَا
(٧٤) قال الواحدي: يقول: إن الرجلين ليفعلان فعلًا واحدًا فيرزق أحدهما بذلك الفعل ويحرم الثاني حتى كأن إحسان المرزوق ذنب للمحروم، ومثال ذلك أن يحضر الحرب اثنان يغنم أحدهما ويحرم الآخر، فحضور الحرب إحسان من الغانم ذنب للمحروم، وكلاهما فعل فعلًا واحدًا، وكذلك مسافران مثلًا سافرا فربح أحدهما وخسر الآخر، فيعد السفر من الرابح إحسانًا يحمد عليه ومن الخاسر ذنبًا يلام عليه، وهذا كما أنشده ابن الأعرابي:وفي هذا — أسعدك الله — من الدلالة على القضاء، وكونه ولعبه بالإنسان وعلى الحظ وأثره في تصرفات الناس ما لا سبيل إلى إنكاره، ونورد هنا بعضًا مما قاله الشعراء مما يتصل بهذا الباب، وهو باب واسع جدًّا. قال رهين المحبسين:وقال:الجد هنا الحظ، والعم: الجماعة، وتكري: من أكرى الزاد إذا نقص، وافترى: كذب، والخال: المخيلة. ويقول أبو تمام:(أكدى الرجل: خاب ولم يظفر بشيء، وأصله من حافر البئر ينتهي إلى كدية أي صخرة صلبة، فلم يمكنه الحفر فيتركه.) ويقول أبو إسحاق الصابي:وقال الإمام الشافعي:والإشارة في قول المتنبي هذا ولذا للمرزوق والمحروم المفهومين من قوله ويختلف الرزقان.
يَخِيبُ الْفَتَى مِنْ حَيْثُ يُرْزَقُ غَيْرُهُ
وَيُعْطَى الْمُنَى مِنْ حَيْثُ يُحْرَمُ صَاحِبُهْ
لَا تَطْلُبَنَّ بِآلَةٍ لَكَ رُتْبَةً
قَلَمُ الْبَلِيغِ بِغَيْرِ حَظِّ مِغَزْلُ
سَكَنَ السِّمَاكَانِ السَّمَاءَ كِلَاهُمَا
هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ
سَيَطْلُبُنِي رِزْقِي الَّذِي لَوْ طَلَبْتُهُ
لَمَا زَادَ وَالدُّنْيَا حُظُوظٌ وَإِقْبَالُ
إِذَا صَدَقَ الْجَدُّ افْتَرَى الْعَمُّ لِلْفَتَى
مَكَارِمَ لَا تُكْرِي وَإِنْ كَذَبَ الْخَالُ
يَنَالُ الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهْوَ جَاهِلُ
وَيُكْدِي الْفَتَى فِي دَهْرِهِ وَهْوَ عَالِمُ
وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ تَأْتِي عَلَى الْحِجَا
إِذَنْ هَلَكَتْ مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ
إِذَا جَمَّعَتْ بَيْنَ امْرَأَيْنِ صِنَاعَةٌ
فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَدْرِي الَّذِي هُوَ أَحْذَقُ
فَلَا تَتَفَقَّدْ مِنْهُمَا غَيْرَ مَا جَرَتْ
بِهِ لَهُمَا الْأَرْزَاقُ حِينَ تُفَرَّقُ
فَحَيْثُ يَكُونُ الْجَهْلُ فَالرِّزْقُ وَاسِعٌ
وَحَيْثُ يَكُونُ الْعِلْمُ فَالرِّزْقُ ضَيِّقُ
لَوْ أَنْ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتَنِي
بِنُجُومِ أَفْلَاكِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى
ضِدَّانِ مُفْتَرِقَانِ أَيَّ تَفَرُّقِ
فَإِذَا سَمِعْتَ بِأَنَّ مَحْرُومًا أَتَى
مَاءً لِيَشْرَبَهُ فَغَاضَ فَصَدِّقِ
أَوْ أَنَّ مَحْظُوظًا غَدَا فِي كَفِّهِ
عُودٌ فَأَوْرَقَ فِي يَدَيْهِ فَحَقِّقِ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ
بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ
(٧٥) فأضحت أي قلعة مرعش يقول — كما ذهب إلى ذلك الخطيب وتابعه جماعة من الشراح: إن هذه القلعة لعلوها في الجو كأنما ابتدى بها من الجو فأسست هناك فشقت الكواكب والترب؛ يعني الذي ارتفع منها إلى الجو حواليها فكأنها مقلوبة أسها في السماء وأعلى حائطها إلى الأرض، وروى ابن جني من فوق؛ برفع القاف، وبدؤه؛ بالرفع أيضًا جعل فوق معرفة وبناه كقبل وبعد، وأراد فوقه فلما حذف الهاء بناه كقبل وبعد، ورفع بدؤه على الابتداء، قال الواحدي: على رواية ابن جني لا يستقيم لفظ البيت ولا معناه؛ لأنه — أي المتنبي — يقول: أضحت هذه القلعة — يعني مرعشًا — كأن سورها من فوق بدئه أي من أعلى ابتدائه قد شق الكواكب بعلوه في السماء، وشق التراب برسوخه في الأرض، وهو كقول السموأل:
لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مَنْ نُجِيرُهُ
مَنِيعٌ يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهْوَ كَلِيلُ
رَسَا أَصْلُهُ تَحْتَ الثَّرَى وَسَمَا بِهِ
إِلَى النَّجْمِ فَرْعٌ لَا يُرَامُ طَوِيلُ
(٧٦) تصد: تعرض، والهوج: جمع هوجاء وهي الرياح الحمقاء التي تارة تأتي من هنا وتارة تأتي من هنا، وعنها: متعلق بتصد، ومخافة: مفعول من أجله، وأن تلقط: في موضع نصب على حذف حرف الجر؛ أي من أن تلقط، يقول: إن الرياح الهوج تعرض عنها مخافة أن تعجز عن الوصول إلى أعلاها، وكذلك الطير تحس من نفسها العجز عن الارتقاء إليها والتقاط الحب من ذراها، وقال القاضي أبو
السورة: الحدة، يقول: ولكنه انهزم، وللطعن في أصحابه حدة إذا تذكرها لمس جنبه قائلًا: هل أصابه شيء منه؟ أي إنه انهزم مدهوشًا مرعوبًا لا يدري ما حاله وهل أصابته طعنة نافذة؟ قال بعض الشراح: إنه هرب وبقي من دهشه لا يدري ما يصنع فكان يلمس جنبه هل يجد روحه بين جنبيه من الذهول والفزع، وهذا من قول أبي نواس:
إِذَا تَفَكَّرْتُ فِي هَوَايَ لَهُ
مَسَسْتُ رَأْسِيَ هَلْ طَارَ عَنْ بَدَنِي
(٧١) العذارى: جمع عذارء وهي البكر من النساء، والبطاريق: جمع بطريق وهم قواد الروم، والشعث: جمع أشعث وهو المغبر الرأس، والمراد بهم هنا الرهبان، والقرابين: جمع قربان وهو ما يتقرب به إلى الله والمراد هنا خاصة الملك، والصلب: جمع صليب وسكن اللام على لغة تميم. يقول: إنه انهزم وترك هؤلاء ولم يلتفت إليهم لهول ما رأى.
(٧٢) المستهام: الذي ملك عليه العشق أمره فهام على وجهه، والصبابة: رقة الشوق، يقول: كل منا يطلب الحياة عاشقًا لها محبًّا حريصًا عليها.
(٧٣) يقول: كل من الجبان والشجاع سواء في حب النفس وإن اختلف فعلهما، فالجبان حبًّا لنفسه وإبقاء على حياته اتقى الحرب وترك القتال، والشجاع إنما أقدم على الحرب دفاعًا عن نفسه، وذودا عن مهجته؛ لأنه يخاف على نفسه العدو إن هو قعد عن الحرب أو لأنه إذا أرى من نفسه الشجاعة تحاماه الناس واتقوه، فكان في ذلك بقاؤه كما قال الحماسي — الحصين بن الحمام:وتقول الخنساء:وروي أن الصديق — رضي الله عنه — قال لخالد بن الوليد — وقد ودعه لحرب أهل الردة: احرص على الموت توهب لك الحياة، ومعناه: إما أن الشجاع مهب مرهوب لا يحام حوله، وإما أن ذكره يبقى بعده فيكون كأنه حي كما قال حبيب:وإما أنه إذا استشهد صار حيًّا كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ قال العكبري: وهذا البيت من الحكمة، قال الحكيم: النفس المتجوهرة تأبى مقارنة الذل كل الإباء، وترى فناءها في طلب العز حياتها، والنفس الدنيئة على الضد من ذلك، وروي بدل النفس الحرب.
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ
لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
نُهِينُ النُّفُوسَ وَهَوْنُ النُّفُوسِ
يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَبْقَى لَهَا
سَلَفُوا يَرَوْنَ الذِّكْرَ عُقْبًا صَالِحًا
وَمَضَوْا يَعُدُّونَ الثَّنَاءَ خُلُودَا
(٧٤) قال الواحدي: يقول: إن الرجلين ليفعلان فعلًا واحدًا فيرزق أحدهما بذلك الفعل ويحرم الثاني حتى كأن إحسان المرزوق ذنب للمحروم، ومثال ذلك أن يحضر الحرب اثنان يغنم أحدهما ويحرم الآخر، فحضور الحرب إحسان من الغانم ذنب للمحروم، وكلاهما فعل فعلًا واحدًا، وكذلك مسافران مثلًا سافرا فربح أحدهما وخسر الآخر، فيعد السفر من الرابح إحسانًا يحمد عليه ومن الخاسر ذنبًا يلام عليه، وهذا كما أنشده ابن الأعرابي:وفي هذا — أسعدك الله — من الدلالة على القضاء، وكونه ولعبه بالإنسان وعلى الحظ وأثره في تصرفات الناس ما لا سبيل إلى إنكاره، ونورد هنا بعضًا مما قاله الشعراء مما يتصل بهذا الباب، وهو باب واسع جدًّا. قال رهين المحبسين:وقال:الجد هنا الحظ، والعم: الجماعة، وتكري: من أكرى الزاد إذا نقص، وافترى: كذب، والخال: المخيلة. ويقول أبو تمام:(أكدى الرجل: خاب ولم يظفر بشيء، وأصله من حافر البئر ينتهي إلى كدية أي صخرة صلبة، فلم يمكنه الحفر فيتركه.) ويقول أبو إسحاق الصابي:وقال الإمام الشافعي:والإشارة في قول المتنبي هذا ولذا للمرزوق والمحروم المفهومين من قوله ويختلف الرزقان.
يَخِيبُ الْفَتَى مِنْ حَيْثُ يُرْزَقُ غَيْرُهُ
وَيُعْطَى الْمُنَى مِنْ حَيْثُ يُحْرَمُ صَاحِبُهْ
لَا تَطْلُبَنَّ بِآلَةٍ لَكَ رُتْبَةً
قَلَمُ الْبَلِيغِ بِغَيْرِ حَظِّ مِغَزْلُ
سَكَنَ السِّمَاكَانِ السَّمَاءَ كِلَاهُمَا
هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ
سَيَطْلُبُنِي رِزْقِي الَّذِي لَوْ طَلَبْتُهُ
لَمَا زَادَ وَالدُّنْيَا حُظُوظٌ وَإِقْبَالُ
إِذَا صَدَقَ الْجَدُّ افْتَرَى الْعَمُّ لِلْفَتَى
مَكَارِمَ لَا تُكْرِي وَإِنْ كَذَبَ الْخَالُ
يَنَالُ الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهْوَ جَاهِلُ
وَيُكْدِي الْفَتَى فِي دَهْرِهِ وَهْوَ عَالِمُ
وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ تَأْتِي عَلَى الْحِجَا
إِذَنْ هَلَكَتْ مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ
إِذَا جَمَّعَتْ بَيْنَ امْرَأَيْنِ صِنَاعَةٌ
فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَدْرِي الَّذِي هُوَ أَحْذَقُ
فَلَا تَتَفَقَّدْ مِنْهُمَا غَيْرَ مَا جَرَتْ
بِهِ لَهُمَا الْأَرْزَاقُ حِينَ تُفَرَّقُ
فَحَيْثُ يَكُونُ الْجَهْلُ فَالرِّزْقُ وَاسِعٌ
وَحَيْثُ يَكُونُ الْعِلْمُ فَالرِّزْقُ ضَيِّقُ
لَوْ أَنْ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتَنِي
بِنُجُومِ أَفْلَاكِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى
ضِدَّانِ مُفْتَرِقَانِ أَيَّ تَفَرُّقِ
فَإِذَا سَمِعْتَ بِأَنَّ مَحْرُومًا أَتَى
مَاءً لِيَشْرَبَهُ فَغَاضَ فَصَدِّقِ
أَوْ أَنَّ مَحْظُوظًا غَدَا فِي كَفِّهِ
عُودٌ فَأَوْرَقَ فِي يَدَيْهِ فَحَقِّقِ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ
بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ
(٧٥) فأضحت أي قلعة مرعش يقول — كما ذهب إلى ذلك الخطيب وتابعه جماعة من الشراح: إن هذه القلعة لعلوها في الجو كأنما ابتدى بها من الجو فأسست هناك فشقت الكواكب والترب؛ يعني الذي ارتفع منها إلى الجو حواليها فكأنها مقلوبة أسها في السماء وأعلى حائطها إلى الأرض، وروى ابن جني من فوق؛ برفع القاف، وبدؤه؛ بالرفع أيضًا جعل فوق معرفة وبناه كقبل وبعد، وأراد فوقه فلما حذف الهاء بناه كقبل وبعد، ورفع بدؤه على الابتداء، قال الواحدي: على رواية ابن جني لا يستقيم لفظ البيت ولا معناه؛ لأنه — أي المتنبي — يقول: أضحت هذه القلعة — يعني مرعشًا — كأن سورها من فوق بدئه أي من أعلى ابتدائه قد شق الكواكب بعلوه في السماء، وشق التراب برسوخه في الأرض، وهو كقول السموأل:
لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مَنْ نُجِيرُهُ
مَنِيعٌ يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهْوَ كَلِيلُ
رَسَا أَصْلُهُ تَحْتَ الثَّرَى وَسَمَا بِهِ
إِلَى النَّجْمِ فَرْعٌ لَا يُرَامُ طَوِيلُ
(٧٦) تصد: تعرض، والهوج: جمع هوجاء وهي الرياح الحمقاء التي تارة تأتي من هنا وتارة تأتي من هنا، وعنها: متعلق بتصد، ومخافة: مفعول من أجله، وأن تلقط: في موضع نصب على حذف حرف الجر؛ أي من أن تلقط، يقول: إن الرياح الهوج تعرض عنها مخافة أن تعجز عن الوصول إلى أعلاها، وكذلك الطير تحس من نفسها العجز عن الارتقاء إليها والتقاط الحب من ذراها، وقال القاضي أبو الحسن الجرجاني: يريد أن الرياح لا تدنو منها خوفًا من تثقيف سياسته والطير لا تقع عليها خشية أن يجري عليها إذا هي التقطت الحب ما توجبه حال المتناول من دون إذن، وهذا المعنى منقول من قول حبيب:وهو كقول الآخر:
فَقَدْ بَثَّ عَبْدُ اللهِ خَوْفَ انْتِقَامِهِ
عَلَى اللَّيْلِ حَتَّى مَا تَدِبُّ عَقَارِبُهْ
وَكَانَتْ لَا تَطِيرُ الطَّيْرُ فِيهَا
وَلَا يَسْرِي بِهَا لِلْجِنِّ سَارِي
(٧٧) تردى: من الرديان وهو ضرب من العدو ترجم فيه الجياد الأرض بحوافرها، والجرد: القصار الشعر وهو من آيات العتق والكرم، والصِّنَّبْر: السحاب البارد الريح في غيم وأيضًا اسم اليوم الثاني من أيام العجوز، قالوا وهي سبعة أيام، وأنشدوا لابن أحمر وقيل لابن شبل الأعرابي:(الكسع: شدة المر، يقال: كسعه بكذا وكذا، إذا جعله تابعًا له ومذهبًا به، والشهلة: العجوز، والنجر: الحر، وكل شهر في صميم الحر ناجر للعطش الذي يسببه.)
يقال: إن عجوزًا كان لها سبعة أولاد خرج كل واحد منهم في يوم من هذه الأيام فقتله البرد، والعطب: القطن، والعطب مثله كعسر وعسر. قال الشاعر:يقول: خيلك تعدو فوق جبال هذه القلعة، وقد امتلأت طرقها بالثلج الذي كأنه قطن ندفه فيها برد الشتاء وصقيعه.
كُسِعَ الشِّتَاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْر
أَيَّامِ شَهْلَتِنَا مِنَ الشَّهْرِ
فَإِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُهَا وَمَضَتْ
صِنٌّ وَصِنَّبْرٌ مَعَ الْوَبْرِ
وَبِآمِرٍ وَأَخِيهِ مُؤْتَمِرٍ
وَمُعَلِّلٍ وَبِمُطْفِئِ الْجَمْرِ
ذَهَبَ الشِّتَاءُ مُوَلِّيًا هَرَبًا
وَأَتَتْكَ وَافِدَةٌ مِنَ النجْرِ
يقال: إن عجوزًا كان لها سبعة أولاد خرج كل واحد منهم في يوم من هذه الأيام فقتله البرد، والعطب: القطن، والعطب مثله كعسر وعسر. قال الشاعر:
كَأَنَّهُ فِي ذُرَى عَمَائِمِهِمْ
مُوَضَّعٌ مِنْ مَنَادِفِ الْعُطْبِ
(٧٨) أن يعجب: فاعل كفى، وعجبًا: تمييز، وتبًا؛ أي خسرا وهلاكا. يقول: من العجب أن يعجب الناس ممن بنى هذه القلعة، وتبًا لآرائهم حين لم يدركوا أنه يقدر على كل ما يقصد إليه، فكيف يتعجبون من قادر يبلغ ما يريد؟
(٧٩) يقول: وأي فرق بينه وبين غيره، وأية مزية يمتاز بها عما سواه إذا كان يخشى ما يخشاه غيره، أو كان ممن يستصعب الصعب؟ إنما ينفصل عن الأغيار ويفضلهم؛ لأنه لا يخشى شيئًا، ولا يتصعب عليه أمر مهما كان.
(٨٠) الصارم العضب: السيف القاطع، يقول: إن الخلافة ما أعدته لأعدائها وسمته سيف الدولة دون غيره إلا لأمر عظيم، وذلك أنه بلغ من الشجاعة والحزم والسياسة مبلغًا لم يبلغه أحد.
(٨١) يقول: إن أعداءه لم يخيموا عن لقائه وينهزموا أمامه رحمة له وإشفاقًا، ولم يجلوا عن الشام محبة له ورغبًا، ولكنهم فعلوا ذلك فرقًا وفزعًا، وهذا المعنى كقول مروان بن أبي حفصة:
وَمَا أَحْجَمَ الْأَعْدَاءُ عَنْكَ بَقِيَّةً
عَلَيْكَ وَلَكِنْ لَمْ يَرَوْا فِيكَ مَطْمَعَا
(٨٢) قوله: غير كريمة؛ حال؛ أي نفى هذه الأسنة عنه في حال كونها غير كريمة، كريم الثناء … إلخ، والمراد نفي أصحابها، يقول: لم تتفرق عنه أعداؤه، ولا تركوا الشام حبًّا له، وإنما نفاهم عن الشام أذلاء صاغرين أنه رجل كريم الثناء ما سبَّه أحد؛ لأنه لا يفعل ما يسب عليه ولا سب أحدًا لأدبه وكرمه، والثناء ممدود ولكنه قصره هنا ضرورة اسم من أثنى عليه إذا وصفه بخير أو شر ولكنه غلب في المدح، ويروى النثا وهو قريب من الثنا، وقوله كريم الثنا تجريد على إضمار محذوف أي نفاها منه رجل كريم الثنا … إلخ.
(٨٣) قوله: وجيش؛ عطف على كريم الثنا، والطود: الجبل العظيم، والخريق: الريح الشديدة كأنها الإعصار، يقول: ونفاها عنه جيش إذا مر بجبل كان لكثرته كأنه جبل آخر فصار به الجبل جبلين، وهذا معنى قوله: يثني كل طود، ثم قال: وهو مع هذه الكثرة والكثافة إذا لاقى عدوًا كان لشدته كأنه عاصف من الريح لقي غصنًا رطبًا فخسف به وحطمه، وعبارة الشراح أن هذا الجيش إذا مر بجبل شقه نصفين؛ لكثرته، له صلصلة تسمع كالريح الخريق إذا مرت بغصن رطب، قال الشاعر:وهذه العبارة من الغموض بحيث تحتاج هي الأخرى إلى شرح …
كَأَنَّ هُبُوبَهَا خَفَقَانُ رِيحٍ
خَرِيقٍ بَيْنَ أَعْلَامٍ طِوَالِ
(٨٤) مغاره؛ أي إغارته، والعجاجة: الغبار، يقول: إن غبار هذا الجيش حجب السماء حتى لم تبدُ النجوم، فكأن النجوم خافت إغارته عليها فاحتجبت عنه بذلك الغبار حتى لا يراها، وقد أخذ هذا المعنى الجميل الحيص بيص فقال:(رجل مصدم: محرب. من التصادم.)
نَفَى وَاضِحَ التَّشْرِيقِ عَنْ أَرْضِ رَبْعِهِ
دُخَانُ قُدُورٍ أَوْ عَجَاجَةُ مِصْدَمِ
(٨٥) يقول: إذا كان هناك من الملوك من يرضي اللؤم والكفر بأن ينزل على حكمهما، ويعمل ما يقتضيانه فهذا يرضي المكارم بجوده وسخائه، ويرضي الله بجهاده في سبيله، وقال الشريف بن الشجري في أماليه: الإشارة في قوله: فهذا إلى الملك لا إلى الممدوح لأمرين؛ أحدهما: أنه لو أراد الممدوح لقال فأنت الذي ترضى؛ لأن الخطاب في مثل هذا أمدح، والآخر: أنه أشار إلى الملك فجعل الإرضاء له؛ لأن الإرضاء الأول مسند إلى الملك، فوجب أن يكون الإرضاء الثاني كذلك؛ لأن وجه الإشارة إليه أن قوله: ملكه؛ قد دل عليه كما توجهت الإشارة في الضمير إلى الصبر من قوله تعالى: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لدلالة صبر عليه، وكما عاد الضمير إلى الملك من قول القطامي:قال: وكان الوجه لأبي الطيب أن يقول في المقابلة يرضي المكارم والإيمان؛ ليقابل بالإيمان الكفر كما قابل بالمكارم اللؤم، ولكن لما اضطرته القافية وضع لفظ الرب موضع الإيمان فكان ذلك في غاية الحسن؛ لأن المراد في الحقيقة إرضاء أهله، وإرضاء أهله تابع لإرضاء الله تعالى.
هُمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ هُمُ
وَالْآخِذُونَ بِهِ والسَّاسَةُ الْأُوَلُ
(٨٦) مستعتبًا: مسترضيًا. قال الواحدي: لما انصرف أبو الطيب من مجلس سيف الدولة وقف له رجالة في طريقه؛ ليغتالوه، فلما رآهم أبو الطيب ورأى السلاح تحت ثيابهم سل سيفه، وجاءهم حتى اخترقهم فلم يقدموا عليه، ونُمي ذلك إلى أبي العشائر؛ فأرسل عشرة من خاصته فوقفوا بباب سيف الدولة، وجاء رسوله إلى أبي الطيب فسار إليه حتى قرب منهم فضرب أحدهم يده إلى عنان فرسه، فسل أبو الطيب السيف فوثب الرجل أمامه، وتقدمت فرسه الخيل، وعبرت قنطرة كانت بين يديه، واجترهم إلى الصحراء فأصاب أحدهم نحر فرسه بسهم فانتزع أبو الطيب السهم ورمى به، واستقلت الفرس، وتباعد بهم؛ ليقطعهم عن إمداد إن كان لهم، ثم كرَّ عليهم بعد أن فني النشاب فضرب أحدهم فقطع الوتر وبعض القوس، وأسرع السيف إلى ذراعه؛ فوقفوا عنه، واشتغلوا بالمضروب، فسار وتركهم، فلما يئسوا منه قال له أحدهم في آخر الليلة: نحن غلمان أبي العشائر، ولذلك قال: ومنتسبٍ عندي إلى من أحبُّه … ثم عاد أبو الطيب إلى المدينة في الليلة الثانية مستخفيًا فأقام عند صديق له، والمراسلة بينه وبين سيف الدولة، وسيف الدولة ينكر أن يكون قد فعل ذلك أو أمر به، وعند ذلك قال هذه الأبيات، وجاء في الصبح المنبي ما يأتي: قال أبو فراس الحمداني يومًا لسيف الدولة: إن هذا المتشدق — يعني المتنبي — كثير الإدلال عليك وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار عن ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره، فتأثر سيف الدولة من هذا الكلام وعمل فيه، وكان المتنبي غائبًا، وبلغته القصة، ولما حضر دخل على سيف الدولة وأنشده:الأبيات. قال: فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته، فخرج المتنبي من عنده متغيرًا، وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة في حق المتنبي، وانقطع أبو الطيب بعد ذلك، ونظم القصيدة التي أولها:ثم جاء وأنشدها، وجعل يتظلم فيها من التقصير في حقه بقوله:إلى أن قال:فهم جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة؛ لشدة إدلاله، وإعراض سيف الدولة عنه، فلما وصل في إنشاده إلى قوله:قال أبو فراس: قد مسخت قول دعبل وادعيته، وهو:فقال المتنبي:فعلم أبو فراس أنه يعنيه، فقال: ومن أنت يا دعي كندة حتى تأخذ أعراض أهل الأمير في مجلسه؟ فاستمر المتنبي في إنشاده، ولم يرد عليه إلى أن قال:فزاد ذلك أبا فراس غيظًا، وقال: قد سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد حيث يقول:ولما انتهى إلى قوله:قال أبو فراس: وماذا أبقيت للأمير إذا وصفت نفسك بكل هذا؟ تمدح الأمير بما سرقته من كلام غيرك، وتأخذ جوائز الأمير؟ أما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسود النخعي الكوفي المعروف بابن العربان العثماني:فقال المتنبي:فقال أبو فراس: وهذا سرقته من قول معقل العجلي:ومثله قول محمد بن أحمد بن أبي مرة المكي:وضجر سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة، وكثرة دعاويه فيها؛ فضربه بالدواة التي بين يديه، فقال المتنبي في الحال:قال أبو فراس وهذا أخذته من قول بشار:ومثله قول ابن الرومي:فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قال أبو فراس، وأعجبه بيت المتنبي، ورضي عنه في الحال، وأدناه إليه، وقبل رأسه، وأجازه بألف دينار ثم أردفها بألف أخرى، فقال المتنبي:
أَلَا مَا لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ الْيَوْمَ عَاتِبًا
فدَاهُ الْوَرَى أَمْضَى السُّيُوفِ مَضَارِبَا
وَا حَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبمُ
مَا لِي أُكَتِّمُ حُبًّا قَدْ بَرَى جَسَدِي
وَتَدَّعِي حُبَّ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الْأُمَمُ
قَدْ زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الْهِنْدِ مُغْمَدَةٌ
وَقَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهِ وَالسُّيُوفُ دَمُ
يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إِلَّا فِي مُعَامَلَتِي
فِيكَ الْخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
وَلَسْتُ أَرْجُو انْتِصَافًا مِنْكَ مَا ذَرفَتْ
عَيْنِي دُمُوعًا وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
أُعِيذُهَا نَظَرَاتٍ مِنْكَ صَادِقَةً
أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ
سَيَعْلَمُ الْجَمْعُ مِمَّنْ ضَمَّ مَجْلِسَنَا
بِأَنَّنِي خَيْرُ مَنْ تَسْعَىَ بِهِ قَدَمُ
أَنَا الَّذِي نَظَرَ الْأَعْمَى إِلَى أَدَبِي
وَأَسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ
أَوْضَحْت مِنْ طُرُقِ الآدَابِ مَا اشْتَكَلَتْ
دَهْرًا وَأَظْهَرْت إِغْرَابًا وَإِبْدَاعَا
حَتَّى فَتَحْت بِإِعْجَازٍ خصصت بِهِ
لِلْعُمْي وَالصُّمِّ أَبْصَارًا وَأَسْمَاعَا
الْخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي
وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالْقِرْطَاسُ وَالْقَلَمُ
أَعَاذِلَتِي كَمْ مَهْمَهٍ قَدْ قَطَعْتُهُ
أَلَيفَ وُحُوشٍ سَاكِنًا غَيْرَ هَائِبِ
أَنَا ابْنُ الْفَلَا وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالسُّرَى
وَجَرْدِ الْمَذَاكِي وَالْقَنَا وَالْقَوَاضِبِ
حَلِيمٌ وَقُورٌ فِي الْبِلَادِ وَهَيْبَتِي
لَهَا فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَطْشُ الْكَتَائِبِ
وَمَا انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيَا بِنَاظِرِهِ
إِذَا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْأَنْوَارُ وَالظُّلَمُ
إِذَا لَمْ أُمَيِّزْ بَيْنَ نُورٍ وَظُلْمَةٍ
بِعَيْنَيَّ فَالْعَيْنَانِ زُورٌ وَبَاطِلُ
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُدْرِكْ بِعَيْنَيْهِ مَا يَرَى
فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُمْيِ وَالْبُصَرَاءِ
إِنْ كَانَ سَرَّكُمُ مَا قَالَ حَاسِدُنَا
فَمَا لِجُرْحٍ إِذَا أَرْضَاكُمُ أَلَمُ
إِذَا رَضِيتُمْ بِأَنْ نَجْفَى وَسَرَّكُمُ
قَوْلُ الْوُشَاةِ فَلَا شَكْوَى وَلَا ضَجَرُ
إِذَا مَا الْفَجَائِعُ أَكْسَبْنَنِي
رِضَاكَ فَمَا الدَّهْرُ بِالْفَاجِعِ
جَاءَتْ دَنَانِيرُكَ مَخْتُومَةً
عَاجِلَةً أَلْفًا عَلَى أَلْفِ
أشبههَا فِعْلكَ فِي فَيْلَقٍ
قَلَبْتَهُ صَفًّا عَلَى صَفِّ
(٨٧) فداه الورى: دعاء، وعاتبًا: حال، وأمضى السيوف: خبر مبتدإ محذوف؛ أي هو أمضى السيوف مضاربًا، أو تقول: إنه منصوب على المدح، ومضاربًا: تمييز، ومضارب السيوف: حدودها. يقول: ما لسيف الدولة غضبان؟ أي لم غضب؟ وما سبب غضبه؟ فلست أعرف لي ذنبًا يوجب ذلك، ثم دعا له، ثم قال: لا سيف أمضى منه مضربًا.
(٨٨) التنائف: جمع تنوفة وهي المفازة، والسباسب جمع سبسب وهي الفلاة القفر. يقول: ما لي إذا اشتقت إليه أبصرت بيني وبينه فلوات بعيدة مترامية الأطراف من عتبه وتجافيه واستيحاشه؟
(٨٩) أراد بالسماء مجلسه، جعله كالسماء رفعة له، وجعله كالبدر، ومن حوله من ندمائه وأهل مجلسه كالكواكب. وعبارة الخطيب التبريزي: شبه مجلسه بالسماء، وجعله بدرًا وحوله كواكب، فهو كقوله أيضًا:
أُقَلِّبُ مِنْكَ طَرْفِي فِي سَمَاءٍ
وَإِنْ طَلَعَتْ كَوَاكِبُهَا خِصَالَا
(٩٠) حنانيك: كلمة موضوعة موضع المصدر استعملت مثناة كأنه حنان بعد حنان، أي تحننا بعد تحنن، ومثلها لبيك من لب به إذا لزمه، وحسبي وحسبك: خبران مبتدآهما محذوفان؛ أي وأنت حسبي وأنا حسبك، والمنصوبات كلها على الحال، وقيل: على التمييز. يقول: تحنن علي تحننا بعد تحنن إذا كنت مسئولًا، ولك الإجابة إذا كنت داعيًا، وكفى بي موهوبًا؛ أي إنني أشكر من يهبني، وأشيد بذكره، وكفى بك واهبًا؛ أي إنك أشرف الواهبين، ولست أحتاج إلى واهب آخر بعد هباتك.
(٩١) قال الواحدي؛ أي إن كنت صادقًا في مديحك فليس ما تعاملني به جزاء لصدقي، وإن كنت كاذبًا فليس هذا جزاء الكاذبين؛ لأني إن كذبت فقد تجملت لك في القول، فتجمل لي أنت أيضًا في المعاملة.
(٩٢) يقول: إن كان ذنبي ذنبًا ليس بعده ذنب فالتوبة من الذنب محو ليس بعده محو، وهذا المعنى مأخوذ من الحديث الشريف: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له.»
(٩٣) الذي صح عن المتنبي: وخاضبيه — على التثنية — وهو عطف على ما؛ أي وأحسن خاضبيه، والنجيع: الدم. يقول: إن هناك خضابين الذهب والدم وأحسنهما الدم، وهناك خاضبان الصناعة والغضب — لأن خضبه بالذهب لا يكون إلا بصناعة الصيقل، وخضبه بالدم إنما يكون بسبب الغضب الباعث على الجلاد بالسيف — وأحسن الخاضبين الغضب، وروي: وخاضبِيه — بكسر الباء — على أنه جمع خاضب، قال ابن جني: وخاضبيه عطف على ما، وجمع الخاضبين جمع تصحيح؛ لأنه أراد من يعقل وما لا يعقل كقوله تعالى: وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ الآية. كأنه خلط الجميع، وكنى عنهم بما يكنى به عمن يعقل، وذكر الغضب مجازًا وأراد صاحبه، وقال ابن فورجه: خفض خاضبيه على القسم أي وحق خاضبيه، وجعل الغضب خضابًا للحديد؛ لأنه يخضبه بالدم على سبيل التوسع، وحسن ذلك؛ لأن الغضب يحمر منه الإنسان، وهذا كقولك أحسن ما يخضب الخدود الحمرة والخجل؛ لأن الخجل يصبغ الخد أحمر، فلما كانت الحمرة تابعة للخجل جمعهما تأكيدًا، كذلك لما كان النجيع تابعًا للغضب جمعهما وهو يريد للدم وحده، ويكون الغضب تأكيدًا للنجيع؛ أتى به للقافية.
(٩٤) شانه: عابه، والنضار: الذهب، يقول: لا تشنه بالأذهاب فإنه إذا أذهب — ولا يكون ذلك إلا بعد إحمائه — ذهبت سقايته أي ماؤه.
(٩٥) أرابه: أفزعه وأوقع به شيئًا يشك في عاقبته؛ أخيرًا يكون أم شرًا؟ يقول: هل يدري هذا الدمل أي الناس قد أقلق؟ وهذا استفهام تعجب واستعظام، ثم قال متعجبًا: وهل ترقى خطوب الدهر وأحداثه إلى الفلك؟ جعله كالفلك لعلو قدره ورفعة شأنه.
(٩٦) الضمير في أقلها يعود إلى كل داء: كما في قوله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أو تقول: إن الضمير يعود على المجموع المستفاد من المعنى؛ أي أقل الأدواء يقول: إن جسمك لا ينبغي أن تنال منه الأدواء، فمن العجب أن يقربك أقل الأدواء، وجعل للأدواء همة مجازًا.
(٩٧) التجميش: شبه المغازلة والملاعبة بين الحبيبين؛ قال أبو العباس ثعلب: قيل للمغازلة تجميش من الجمش وهو الكلام الخفي، وقيل من الجمش الذي هو ضرب من الحلب؛ لجمشها بأطراف الأصابع، والمقة: المحبة، وأصلها ومق. يقول: إن الذي ألم بك إنما هو تجميش من الزمان لحبه إياك وتعلقه بك؛ لأنك جماله وأمثل أهله، وقد يكون الحب سببًا لإيذاء المحبوب.
(٩٨) يقول: أنت طبيب الدنيا الذي تشفي أدواءها؛ فتقوم المعوج، وتطرد الظلم والعيث والفساد، فكيف تعلك وأنت طبيبها؟
(٩٩) يقول: وكيف تلم بك الشكوى وبك يستغاث مما ينوب من نوائب الدهر فتغيث وترفع الشكوى؟
(١٠٠) مقام: مصدر ميمي بمعنى الإقامة، يفتح ويضم، وصبيب: مصبوب، ويقال: ماء صبيب وصب كما تقول: ماء سكب وماء غور، قال دكين بن رجاء:(الذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن وهما ذفريان، والكحيل: النفط الذي تطلى به الإبل الجرباء، ورب السمن والزيت: ثفله الأسود، وعقيده: ما غلظ منه.)
والحشايا: جمع حشية معدولة عن المحشوة وهي الفرش المحشوة. يقول: لقد اعتدت الطعان والجلاد وسفك دم الأعداء، ولبعد همتك لا ترى شفاء لك إلا في ممارسة الحروب، ولا آلم ولا أجلب للأدواء من الجلوس على الفرش المحشوة أو النوم عليها، ومن أجل ذلك تمل الإقامة يومًا واحدًا لا تخرج فيه للغزو، ولا يكون فيه طعن صادق ودم مصبوب.
تَنْضَحُ ذِفْرَاهُ بِمَاءٍ صَبِّ
مِثْلِ الْكُحَيْلِ أَوْ عَقِيدِ الرِّبِّ
والحشايا: جمع حشية معدولة عن المحشوة وهي الفرش المحشوة. يقول: لقد اعتدت الطعان والجلاد وسفك دم الأعداء، ولبعد همتك لا ترى شفاء لك إلا في ممارسة الحروب، ولا آلم ولا أجلب للأدواء من الجلوس على الفرش المحشوة أو النوم عليها، ومن أجل ذلك تمل الإقامة يومًا واحدًا لا تخرج فيه للغزو، ولا يكون فيه طعن صادق ودم مصبوب.
(١٠١) مقام: مصدر ميمي بمعنى الإقامة، يفتح ويضم، وصبيب: مصبوب، ويقال: ماء صبيب وصب كما تقول: ماء سكب وماء غور، قال دكين بن رجاء:(الذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن وهما ذفريان، والكحيل: النفط الذي تطلى به الإبل الجرباء، ورب السمن والزيت: ثفله الأسود، وعقيده: ما غلظ منه.)
والحشايا: جمع حشية معدولة عن المحشوة وهي الفرش المحشوة. يقول: لقد اعتدت الطعان والجلاد وسفك دم الأعداء، ولبعد همتك لا ترى شفاء لك إلا في ممارسة الحروب، ولا آلم ولا أجلب للأدواء من الجلوس على الفرش المحشوة أو النوم عليها، ومن أجل ذلك تمل الإقامة يومًا واحدًا لا تخرج فيه للغزو، ولا يكون فيه طعن صادق ودم مصبوب.
تَنْضَحُ ذِفْرَاهُ بِمَاءٍ صَبِّ
مِثْلِ الْكُحَيْلِ أَوْ عَقِيدِ الرِّبِّ
والحشايا: جمع حشية معدولة عن المحشوة وهي الفرش المحشوة. يقول: لقد اعتدت الطعان والجلاد وسفك دم الأعداء، ولبعد همتك لا ترى شفاء لك إلا في ممارسة الحروب، ولا آلم ولا أجلب للأدواء من الجلوس على الفرش المحشوة أو النوم عليها، ومن أجل ذلك تمل الإقامة يومًا واحدًا لا تخرج فيه للغزو، ولا يكون فيه طعن صادق ودم مصبوب.
(١٠٢) الضمير في تراها للخيل وإن لم يجر لها ذكر لتقدم ما يدل عليها؛ والعثير: مثال درهم الغبار، والجنيب: الذي تقوده إلى جنبك، يقول: ما بك مرض غير نزاعك إلى ملاقاة العدو بخيل يتبع الغبار قوائمها كأنه جنيب تقوده؛ أي إنك انقطعت عن ذلك فنال منك حبه كما ينال الحب من العاشق إذا انقطع عن رؤية معشوقه.
(١٠٣) مجلحة: حال ثانية للخيل، والحال الأولى جملة وعثيرها لأرجلها جنيب، ومجلحة مصممة ماضية شديدة الأقدام، ويُروى محجلة، وعلى هاتين الروايتين يكون لها خبرًا مقدمًا عما بعده. وروى الخوارزمي: محللة؛ أي قد أحلت لها أرض العدو فهي تطؤها. والسمر: الرماح، والمناحر: جمع منحر وهو موضع النحر من الحلق، والجنوب: جمع جنب وهو ما يلي الإبط إلى الكشح. يقول: وما بك مرض غير أن ترى الخيل على تلك الحال، وأن تراها مصممة ماضية أحلت لها أرض الأعادي تطؤها وتجتاحها وأحلت للرماح حناجرهم وجنوبهم تنفذ فيها.
(١٠٤) الأعنة: جمع عنان سير اللجام، وقرط الفارس عنان فرسه أرخاه حتى يجعله في قذاله للحضر (القذال: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس، والحضر: الجري) فيصير لأذنه بمنزلة القرط، يقول: أرخ لها الأعنة؛ لترجع إلى بلاد الأعادي، فإنها لا تبعد عليها إذا طلبتها لسرعتها.
(١٠٥) الهمزة للاستفهام المحض أو للتقرير، وذا: اسم إشارة، وهفا: زل، والضريب: النظير، وبقراط: الطبيب اليوناني المشهور. يقول: أهذا الداء — داء ولوعه بالحرب إلى حد أن فيها شفاءه، وأنه لو قعد عنها يومًا ضجر ومرض — أهذا داء معضل لم يهتدِ إليه بقراط، وليس لصاحبه نظير؛ لأنه لا يُعرف أحد يمرض لترك الحرب، ويروى: إذا داء، على أن إذا أداة شرط وداء فاعل لفعل محذوف يؤخذ من لازم ما بعده؛ أي إذا خفي داء أو إذا أعضل داء ونحو ذلك. وقوله: فلم يعرف؛ جواب إذا، والفاء زائدة على مذهب البصريين، فيكون الفعل بعدها مستقبلًا. يقول: الداء الذي لم يذكره بقراط لا نظير لصاحبه بين الناس؛ لأنه لو كان له نظير لسبق مثله فذكره الأطباء، ويروى: أَذَا داءٍ — بجر داء — على أن الهمزة للنداء وذا بمعنى صاحب؛ أي يا صاحب الداء الذي هذه صفته.
(١٠٦) الوُضاء بضم الواو وتشديد الضاد: الشديد الوضاءة؛ أي الحسن من صيغ المبالغة كحسان وكبار، يقول: إنه ينظر منه إلى شمس لا تغيب؛ لأنه موجود ليل نهار بخلاف الشمس.
(١٠٧) أن يشحوا أي في أن يشحوا؛ أي إني أعذر الحساد في شحهم؛ أي بخلهم بالنظر إليه.
(١٠٨) يقول: إن القلوب تحسد العيون على نظر الممدوح، فإذا حسده على ذلك أحد فهو معذور.
(١٠٩) راعيًا وصارمًا: منصوبان على التمييز، وأصل العبث اللعب، ويقال: عبث به إذا ابتذله واستباح حرمته، والصارم: السيف القاطع، والضراب: بمعنى المضاربة؛ شبهه بالراعي وشبه هؤلاء الثائرين بالذئاب. يقول: إن الذئاب تعبث بغيرك في حال رعيه وسياسته، وبثلم الضراب غيرك في حال قطعه: أي إذا كنت أنت الراعي لم تعبث الذئاب بسوامك، وإذا كنت أنت الصارم لم يثلمك الضرب، والمعنى إذا كنت أنت الحافظ لرعيتك لم يحم حولهم أحد بما يضرهم خوفًا منك.
(١١٠) طرًّا أي جميعًا نصب على الحال. يقول: أنت تملك أنفس الإنس والجن جميعًا فكيف يكون لهذه القبيلة — قبيلة بني كلاب — أن تملك أنفسها؟
(١١١) معصية نصب على أنه حال أو مفعول لأجله، ويعاف: يمقت ويتحاشى، والورد: ورود الماء، والواو في قوله والموت الشراب: للحال، يعتذر لهم يقول: إنما تركوك وانهزموا حين طلبتهم خوفًا منك لا عصيانًا، وتمردوا عليك؛ لأنهم إذا ثبتوا أوردوا أنفسهم موارد التلف والهلاك.
(١١٢) يقول: تتبعت أمواه البادية في طلبهم حتى خشي السحاب أن تفتشه تطلبهم لديه لما فيه من الماء.
(١١٣) خب الفرس: أسرع، وقيل: الخبب أن ينقل الفرس أيامنه جميعًا وأياسره جميعًا، وقيل هو أن يراوح بين يديه ورجليه وكذلك البعير، والمسومة: الخيل المعلمة بعلامات تعرف بها. وقال أبو زيد في قوله تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ: الخيل المسومة، المرسلة وعليها ركبانها وهو من قولك سومت فلانًا إذا خليته وسومه، أي وما يريد، والعراب: العربية. يقول: تعدو بك الخيل العربية المعلمة في طلبهم لا تعرف النوم.
(١١٤) العقاب: طائر من الجوارح يطلق على الذكر والأنثى قوي المخالب له منقار أعقف. شبهه — وهو في قلب الجيش والجيش حوله يضطرب للسير — بعقاب تهز جناحيها وتحركهما لدى طيرانها.
(١١٥) الفلوات: الصحاري، جعل طلبه إياهم في الفلوات كالسؤال عنهم، وجعل الظفر بهم كالجواب، وليس ثم سؤال ولا جواب، وإنها لاستعارة رائعة، يقول: ما زلت تتبع آثارهم في الفلوات حتى أدركتهم في إحداها.
(١١٦) ندى كفيك: فاعل قاتل، والواو من وفَرُّوا للحال؛ أي والحال أنهم قد فروا، وأصل الحريم ما يحميه الرجل ويذود عنه، والمراد هنا النساء، والقراب: القريب، يقول: إنهم فروا أمامك وهربوا وظفرت بحريمهم، فما كان منك إلا أن أحسنت إلى الحريم، وحلت دون سبيه وصنته فكأن جود كفيك والنسب القريب الذي بينك وبينهم قاتلا دون حريمهم.
(١١٧) يقول: وقاتل عنهم حفظك فيهم سلفي معد — يريد ربيعة ومضر؛ لأن سيف الدولة ينتهي إلى ربيعة لأنه من تغلب، وبنو كلاب ينتهون إلى مضر لأنهم من قيس، وربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان — وأنهم عشائرك وأنهم أصحابك.
(١١٨) تكفكف: تكف، والصم: الصلاب، والعوالي: صدور الرماح، وشرقت: غصت، والظعن: جمع ظعينة وهي المرأة ما دامت في الهودج، ثم كثر حتى قيل للمرأة ظعينة وإن لم تكن في هودج، والشعاب: جمع شعب وهو الطريق في الجبل، يقول: إنك تكف عنهم الرماح إشفاقًا عليهم، وقد فروا وغصت بظعائنهم شعاب الجبال.
(١١٩) الأجنة: جمع جنين وهو الولد في بطن أمه، والولايا: جمع ولية وهي شبه البرذعة تحمل على سِنام البعير، أو كساء يجعل تحت البرذعة، وقيل: كل ما ولي ظهر البعير من كساء أو غيره فهو ولية، وأجهضت: أسقطت، والحوائل: جمع حائل؛ الأنثى من أولاد الإبل، والسقاب: جمع سقب الذكر منها. يقول: لشدة فزعهم والهول الذي ألم بهم أجهضت النساء في البراذع؛ أي على ظهور الإبل، وأسقطت نوقهم أولادها ذكورًا وإناثًا.
(١٢٠) عمرو قبيلة منهم ذهبت ذات اليمين وتفرقت فصارت عمورًا، وكعب ذهبت ذات اليسار وتفرقت فصارت كعابًا. يريد أنهم لما انهزموا تفرقوا فصارت عمرو عمورًا وكذلك كعبًا، وفي هذا المعنى يقول كعب بن مالك:(يريد أن آراءهم تفرقت وتضادت فكان كل ذي رأي منهم قبيلًا على حدته، فلذلك قال: صاروا كعابا.)
رَأَيْتُ الشِّعْبَ مِنْ كَعْبٍ وَكَانُوا
مِنَ الشَّنَآنِ قَدْ صَارُوا كِعَابَا
(١٢١) هؤلاء بطون بني كلاب، وأنث أبا بكر على معنى القبيلة أو العشيرة. يقول: إنهم لما انهزموا خذل بعضهم بعضًا؛ لتشاغلهم بأرواحهم.
(١٢٢) قال ابن جني: التخاذل التأخر، وإذا تأخرت الجمجمة والرقبة تأخر الإنسان؛ أي لما سرت وراءهم تأخرت رءوسهم؛ لإدراكك إياهم وإن كانت في الواقع قد أسرعت، واستبعد العروضي هذا المعنى قال: تخاذل الجماجم والرقاب هو أن يضربها بالسيف فيقطعها ويفصل بينهما فتتساقط فكأن كل واحد منهما خذل صاحبه، وقال الواحدي: الذي أراه غير هذا، يقول: إن الرءوس تتبرأ من الأعناق والأعناق تتبرأ منها خوفًا منك فلا يبقى بينهما تعاون، وهذا المعنى أراده الخوارزمي، فقال:وعبارة بعض الشراح إذا نوت رقابهم الثبات نوت جماجمهم التأخر؛ لشدة خوفها من سيفك، وكذلك عند العكس فيكاد كل فريق منهما يطلب صبغ الفرار بنفسه ويترك الآخر.
وَكُنْتُ إِذَا نَهَدْتُ لِغَزْوِ قَوْمٍ
وَأَوْجَبَتِ السِّيَاسَةُ أَنْ يَبِيدُوا
تَبَرَّأَتِ الْحَيَاةُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ
وَجَاءَ إِلَيْكَ يَعْتَذِرُ الْحَدِيدُ
وَطَلَّقَتِ الْجَمَاجِمُ كَلَّ فَخْذٍ
وَأَنْكَرَ صُحْبَةَ الْعُنُقِ الْوَرِيدُ
(١٢٣) الملاب: ضرب من الطيب، فارسي معرب، قال الجوهري: كالخلوق، قال جرير يهجو نساء بني تميم:(تبراك: ماء لبني العنبر، والصن بالكسر: بول الوبر يخثر للأدوية وهو منتن جدًّا.)
يقول: لما ظفرت ببني كلاب أخذت نساءهم إلى أماكنهن مكرمات مصونات من الابتذال، عليهن قلائدهن وطيبهن لم يضع منهن شيء، فالضمير في عدن وما بعده يعود على النساء وإن يجر لهن ذكر اعتمادًا على ما ذكر في البيت: فقاتل عن حريمهم وفروا … البيت.
وَلَوْ وَطِئَتْ نِسَاءُ بَنِي تَمِيمٍ
عَلَى تِبْرَاكَ أَخْبَئْنَ التُّرَابَا
تَطَلَّى وَهْيَ سَيِّئَةُ الْمُعَرَّى
بِضَنِّ الْوَبْرِ تَحْسَبُهُ مَلَابَا
يقول: لما ظفرت ببني كلاب أخذت نساءهم إلى أماكنهن مكرمات مصونات من الابتذال، عليهن قلائدهن وطيبهن لم يضع منهن شيء، فالضمير في عدن وما بعده يعود على النساء وإن يجر لهن ذكر اعتمادًا على ما ذكر في البيت: فقاتل عن حريمهم وفروا … البيت.
(١٢٤) أثابه: كافأه، وأوليت: أنعمت، يقول: إنهن يشكرن لك ما أوليتهن من الإحسان، ولكن إحسانك أعظم وأجل من أن يكافأ.
(١٢٥) يقول: ليس في مصيرهن إليك وصونهن لديك أي عيب؛ لأنهن بإكرامك إياهن كأنهن عند أهليهن وأزواجهن.
(١٢٦) الغرة: الوجه، يقول: لا غربة عليهن إذا رأينك؛ إذ لا فرق بينك وبين أزواجهن وأقاربهن.
(١٢٧) البأس: الشدة، والمصاب: مصدر ميمي بمعنى الإصابة. يقول: لا يتم فيهم بأسك وشدتك؛ لأنك حين تصيبهم بمكروه ينال ذلك منك، فبإصابتك إياهم كأنك تصيب نفسك، وهذا المعنى قديم تعاوره الشعراء كثيرًا: قال قيس بن زهير العبسي:وقال الحماسي — الحارث بن وعلة الجرمي:(أميم: مرخم أميمة، وهو منادى، وأخي: مفعول قتلوا.)
وقال العديل:وقال النميري:
فَإِنْ أَكُ قَدْ بَرَدْتُ بِهِمْ غَلِيلِي
فَلَمْ أَقْطَعْ بِهِمْ إِلَّا بَنَانِي
قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي
فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي
وَلَئِنْ عَفَوْتُ لَأَعْفُوَنْ جَلَلًا
وَلَئِنْ سَطَوْتُ لَأُوهِنَنْ عَظْمِي
وقال العديل:
وَإِنِّي وَإِنْ عَادَيْتُهُمْ أَوْ جَفَوْتُهُمْ
لَتَأْلَمُ مِمَّا عَلَّ أَكْبَادَهُمْ كَبِدِي
فَإِنَّكَ — حِينَ تَبْلُغُهُمْ أَذَاةً
وَإِنْ ظَلَمُوا — لَمُحْتَرِقُ الضَّمِيرِ
(١٢٨) يقول: ارفق بهم وإن جنوا، فإن من رفق بمن جنى عليه كان ذلك الرفق عتابًا؛ لأن الصفح عن الجاني يجعله عبدًا لك:
وَمَا قَتَلَ الْأَحْرَارَ كَالْعَفْوِ عَنْهُمُ
(١٢٩) الخطأ والخطاء ضد الصواب، تقول: أخطأ يخطئ إذا سلك سبيل الخطأ، أما الخطأ بكسر الخاء فهو الذنب؛ تقول خطأ يخطأ خطأ وخطأة كفعلة، والاسم الخطيئة كفعيلة، ولك أن تشدد الياء؛ لأن كل ياء ساكنة قبلها كسرة، أو واو ساكنة قبلها ضمة، وهما زائدتان للمد لا للإلحاق، ولا هما من نفس الكلمة؛ فإنك تقلب الهمزة بعد الواو واوًا وبعد الياء ياء وتدغم، وتقول في مقروء مقروٌّ، وفي خبيء خبيٌّ بتشديد الواو والياء، وجمع الخطيئة خطايا، وكأن الأصل خطائئ بهمزتين على فعائل فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء؛ لأن قبلها كسرة واستثقلت، والجمع ثقيل، وهو مع ذلك معتل، فقلبت الياء ألفًا، ثم قلبت الهمزة الأولى ياء؛ لخفائها بين الألفين، وقال أبو عبيدة: خطئ وأخطأ بمعنى واحد، وهما لغتان؛ قال امرؤ القيس:(خطئن أي أخطأن، يريد الخيل وإن لم يجر لها ذكر على حد قوله تعالى: حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ وهند هذه امرأة أبيه لم تلد لأبيه حجر شيئًا، فخلف عليها امرأ القيس، وخرج في طلب بني كاهل فأوقع بحي من بني كنانة وهو يظن أنهم من كاهل، وكاهل بطن من بني أسد، والحُلاحِل السيد في عشيرته الشجاع الضخم المروءة.)
وقال غيره: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي، وتخاطأه وتخطأه أي أخطأه؛ قال أوفى بن مطر المازني:(الخلة: الصديق، الذكر والأنثى والواحد والجمع في ذلك سواء.)
يقول: إن كانوا مخطئين فليسوا أول من أذنب، وقد تابوا والتوبة تجب «تقطع» ما قبلها، وهم عبيدك حيث كانوا إذا دعوتهم للموت أجابوك؛ يعتذر عنهم إلى سيف الدولة.
يَا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كَاهِلا
الْقَاتِلِينَ الْمَلِكَ الْحُلَاحِلَا
وقال غيره: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي، وتخاطأه وتخطأه أي أخطأه؛ قال أوفى بن مطر المازني:
أَلَا أَبْلِغَا خُلَّتِي جَابِرًا
بِأَنَّ خَلِيلَكَ لَمْ يُقْتَلِ
تَخَطَّأَتِ النَّبْلُ أَحْشَاءَهُ
وَأَخَّرَ يَوْمِي فَلَمْ يَعْجَلِ
يقول: إن كانوا مخطئين فليسوا أول من أذنب، وقد تابوا والتوبة تجب «تقطع» ما قبلها، وهم عبيدك حيث كانوا إذا دعوتهم للموت أجابوك؛ يعتذر عنهم إلى سيف الدولة.
(١٣٠) الخطأ والخطاء ضد الصواب، تقول: أخطأ يخطئ إذا سلك سبيل الخطأ، أما الخطأ بكسر الخاء فهو الذنب؛ تقول خطأ يخطأ خطأ وخطأة كفعلة، والاسم الخطيئة كفعيلة، ولك أن تشدد الياء؛ لأن كل ياء ساكنة قبلها كسرة، أو واو ساكنة قبلها ضمة، وهما زائدتان للمد لا للإلحاق، ولا هما من نفس الكلمة؛ فإنك تقلب الهمزة بعد الواو واوًا وبعد الياء ياء وتدغم، وتقول في مقروء مقروٌّ، وفي خبيء خبيٌّ بتشديد الواو والياء، وجمع الخطيئة خطايا، وكأن الأصل خطائئ بهمزتين على فعائل فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء؛ لأن قبلها كسرة واستثقلت، والجمع ثقيل، وهو مع ذلك معتل، فقلبت الياء ألفًا، ثم قلبت الهمزة الأولى ياء؛ لخفائها بين الألفين، وقال أبو عبيدة: خطئ وأخطأ بمعنى واحد، وهما لغتان؛ قال امرؤ القيس:(خطئن أي أخطأن، يريد الخيل وإن لم يجر لها ذكر على حد قوله تعالى: حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ وهند هذه امرأة أبيه لم تلد لأبيه حجر شيئًا، فخلف عليها امرأ القيس، وخرج في طلب بني كاهل فأوقع بحي من بني كنانة وهو يظن أنهم من كاهل، وكاهل بطن من بني أسد، والحُلاحِل السيد في عشيرته الشجاع الضخم المروءة.)
وقال غيره: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي، وتخاطأه وتخطأه أي أخطأه؛ قال أوفى بن مطر المازني:(الخلة: الصديق، الذكر والأنثى والواحد والجمع في ذلك سواء.)
يقول: إن كانوا مخطئين فليسوا أول من أذنب، وقد تابوا والتوبة تجب «تقطع» ما قبلها، وهم عبيدك حيث كانوا إذا دعوتهم للموت أجابوك؛ يعتذر عنهم إلى سيف الدولة.
يَا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كَاهِلا
الْقَاتِلِينَ الْمَلِكَ الْحُلَاحِلَا
وقال غيره: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي، وتخاطأه وتخطأه أي أخطأه؛ قال أوفى بن مطر المازني:
أَلَا أَبْلِغَا خُلَّتِي جَابِرًا
بِأَنَّ خَلِيلَكَ لَمْ يُقْتَلِ
تَخَطَّأَتِ النَّبْلُ أَحْشَاءَهُ
وَأَخَّرَ يَوْمِي فَلَمْ يَعْجَلِ
يقول: إن كانوا مخطئين فليسوا أول من أذنب، وقد تابوا والتوبة تجب «تقطع» ما قبلها، وهم عبيدك حيث كانوا إذا دعوتهم للموت أجابوك؛ يعتذر عنهم إلى سيف الدولة.
(١٣١) يقول: أنت الذي بك بقاؤهم فإذا غضبت عليهم وهجرتهم فقد هجرتهم الحياة، ولا عقاب أكثر من هجر الحياة.
(١٣٢) أياديك: نعمك، والبوادي: خلاف المدن؛ يريد أهل البوادي، والبوادي: فاعل جهلت، وأياديك مفعوله، وقال العكبري: سألت شيخنا أبا محمد عبد المنعم النحوي عند قراءتي عليه عن هذا البيت، وقلت له: يجوز أن يكون البوادي نعتًا للأيادي والبوادي في نصف البيت، فكأنه عنى الوقف وهو موضع وقف، كقولك أجبت الداعي، وقد يوقف على قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ بالسكون، ويكون فاعل جهلت مضمرًا فيها. فقال لي: أنت مقرئ وقد قست، ومع هذا أنت حفي (لعله يريد الحفي بمعنى المستقصي في السؤال) فصوب ما قلت، ويكون البوادي على هذا: السابقات التي بدت إليهم. يقول: إنهم لم يجهلوا بعصيانك سوابق نعمك، ولكن قد يخفى الصواب على المرء فيأتي غيره.
(١٣٣) يقول: قد يتولد الذنب من الدلال فيأتي المدل بالذنب يظنه دلالًا، وقد يكون البعد سببه القرب. يعتذر عنهم؛ أي إنهم أدلوا عليك لفرط إحسانك إليهم فأتوا في ذلك بما صار ذنبًا وجناية منهم.
(١٣٤) الجرم: الذنب، والسفه: خفة الحلم أو نقيضه، يقول: وكم جرم جناه سفيه فنزل العذاب بغيره؟ وهذا المعنى قد طرقه الشعراء كثيرًا قال:وقال:وقال النابغة:(العر: قروح مثل القوباء، تخرج بالإبل متفرقة في مشافرها وقوائمها يسيل منها مثل الماء الأصفر، فتكوى الصحاح؛ لئلا تعديها المراض.) وقال البحتري:وأروع الجميع — ولله المثل الأعلى — قوله — جل شأنه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً.
رَأَيْتُ الْحَرْبَ يَجْنِيهَا رِجَالٌ
وَيَصْلَى حَرَّهَا قَوْمٌ بَرَاءُ
جَنَى ابْنُ عَمِّكَ ذَنْبًا فَابْتُلِيتَ بِهِ
إِنَّ الْفَتَى بِابْنِ عَمِّ السُّوءِ مَأْخُوذُ
وَحَمَّلْتَنِي ذَنْبَ امْرِئٍ وَتَرَكْتَهُ
كَذِي الْعُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وَهْوَ رَاتِعُ
نَصُدُّ حَيَاءً أَنْ نَرَاكَ بِأَعْيُنٍ
جَنَى الذَّنْبَ عَاصِيهَا فَلِيمَ مُطِيعُهَا
(١٣٥) علي: اسم سيف الدولة. يقول: إن خافره بسبب جربهم فإنه يرجى العفو عنده كما يهاب؛ لأنه جواد مهيب.
(١٣٦) يقول: إن يك سيف الدولة من تغلب لا من قيس فهو ولي نعمتهم؛ لأن جلودهم نبتت بإحسانهم إليهم، واكتست بما خلع عليهم من ثياب.
(١٣٧) الرباب: غيم يضرب إلى السواد؛ يرى كأنه دون السحاب. قال عبد الرحمن بن حسان:وأثوا: تقووا وكثروا، من أث النبات: كثر والتف، وهو أثيث، ويقال كذلك شعر أثيث، وامرأة أثيثة: كثيرة اللحم، ونسوة أثائث، قال رؤبة:الرجح: جمع رجاح، وهي الثقيلة العجيزة، والأواعث: اللينات؛ فكأن الأصابع تسوخ فيها من لينها وكثرة لحمها.
يقول: إنهم نشئُوا في نعمته وقووا وعزوا بإحسانه كالنبات الذي نما بماء السحاب، فاستعار السحاب للإحسان، والنبات للمحسن إليه.
كَأَنَّ الرَّبَابَ دُوَيْنَ السَّحَابِ
نَعَامٌ تَعَلَّقَ بِالْأَرْجُلِ
وَمِنْ هَوَايَ الرُّجُحُ الْأَثَائِثُ
تُمِيلُهَا أَعْجَازُهَا الْأَوَاعِثُ
يقول: إنهم نشئُوا في نعمته وقووا وعزوا بإحسانه كالنبات الذي نما بماء السحاب، فاستعار السحاب للإحسان، والنبات للمحسن إليه.
(١٣٨) يقول: بانتسابهم إليه وإلى خدمته تمكنوا من أعدائهم، وانقاد لهم من العرب من لا ينقاد لأحد.
(١٣٩) قال الواحدي: يذكر قوتهم وشوكتهم، وأن غير سيف الدولة لو أتاهم لما ظفر بهم، وكنى بالشموس عن النساء، وبالضباب عن المحاماة دونهم؛ لأن الضباب يستر الشمس، ويحول دون النظر إليها. قال: ويجوز أن يكون هذا مثلًا معناه لو غزاهم غيره؛ لكان له ما يشغله بما يلقى قبل الوصول إليهم وإباحة حريمهم؛ أي إنه كان يستقبله من قليلهم ما يمنعه من الوصول إلى الذين هم أكثر منهم؛ فجعل الضباب مثلًا للرعاع، والشموس مثلًا للسادة، وقال ابن الإفليلي: يريد شموس كل يوم يقاتلهم فيه.
(١٤٠) ولاقى: عطف على ثناه، والثاي: جمع ثاية؛ كآي وآية، وهي حجارة تجعل حول البيت يأوي إليها الراعي ليلًا، وفيها مبارك الإبل ومرابض الغنم. يقول: لو غزاهم غيره لثناه ضباب عن شموسهم وللاقى دون وصوله إلى هذه الحجارة حربًا يكثر فيها القتلى حتى يجتمع عليهم الذئب والغراب طلبًا للحوم القتلى، فكيف له بالوصول إلى استباحة حريمهم؟ وقد تورك بعضهم على المتنبي أن الذئب لا يأكل إلا ما افترسه، بخلاف الضبع والكلب، وأنشد في ذلك:«الدعر: الخائن الذي يعيب أصحابه.»
وَلِكُلِّ سَيِّدِ مَعْشَرٍ فِي قَوْمِهِ
دُعَرٌ يُدَنِّسُ عِرْضَهُ وَيَعِيبُ
لَوْلَا سِوَاهُ تَجَزَّرَتْ أَوْصَالُهُ
عُرجُ الضِّبَاعِ وَصُدَّ عَنْهُ الذِّيبُ
(١٤١) وخيلًا: عطف على طعانًا، والموامي: جمع موماة، وهي المفازة، يقول: وكان يلاقي خيلًا تعودت قطع المفاوز على غير علف وماء حتى كأن غذاءها الريح وماءها السراب؛ لأنها عراب مضمرة معودة قلة العلف والماء.
(١٤٢) رب كل شيء: مالكه، ويقال أسرى إذا سار ليلًا، وسرى إذا سار نهارًا، وقيل: هما لغتان تستعملان بمعنى واحد. يقول: إنك سرت إليهم فما نفعهم الوقوف في ديارهم للذود والدفاع، ولا الذهاب للهرب؛ لأنهم إن وقفوا قتلوا، وإن هربوا أدركوا.
(١٤٣) الركاب: الإبل. يقول: ولم ينفعهم ليل يستترون تحته، ولا نهار يكاشفونك فيه، ولا خيل وإبل تحملهم للهرب، فهم لهيبتك تلددوا حائرين حين طلبتهم فلم ينجُ بهم شيء من ذلك.
(١٤٤) العباب: معظم الماء وكثرته، جعل جيشه بحرًا من حديد؛ لكثرة لابسي الحديد فيه. ثم جعلهم يموجون خلفهم في سيرهم، فكأنهم بحر يمد عبابه وراءهم.
(١٤٥) يقول: طرقهم ليلًا وهم يفترشون الحرير آمنون فبيتهم وقتلهم حتى جدلوا على الأرض وأصبحوا وفرشهم التراب بعد الحرير، وقال المعري: يريد نهبهم فلم يترك لهم شيئًا يقعدون عليه سوى التراب.
(١٤٦) يقول: وصار الرجال كالنساء، ذلًا واستخذاء وانقيادا.
(١٤٧) بنو: خبر مبتدأ محذوف؛ أي هم بنو قتلى أبيك، ومن أبقى: عطف عليه، وفاعل أبقى: ضمير يعود على أبيك؛ يشير إلى ما كان من أبي الهيجاء والد سيف الدولة مع بني كلاب، وذلك أنه لما هم بالحج كان أوقع بهم في أرض نجد وفتك بهم، فهؤلاء هم أبناء أولئك وبقيتهم.
(١٤٨) السخاب: قلادة من قرنفل ونحوه ليس فيها من الجوهر شيء يلبسها الصبيان، وجمعها سخب، يقول: إن أباك قتل آباءهم وعفا عن الأبناء فأعتقهم وهم صغار يلبسون السخاب فعاشوا عتقاء سيفه.
(١٤٩) يقول: كلاكما فعل فعل أبيه، فهم تقيلوا آباءهم في التمرد والعصيان، وأنت أخذت أخذ أبيك في العفو والغفران؛ ففعلهم حين عصوك عجيب، إذ لم يعتبروا بآبائهم، وفعلك أيضًا عجيب إذ صفحت عنهم وأبقيت على باقيهم، وأتى مأتى فلان أي فعل فعله وأخذ أخذه، والفعال — بفتح الفاء — فعل الواحد خاصة في الخير والشر، يُقال: فلان كريم الفعال، وفلان لئيم الفعال، ولك أن تكسر الفاء على أنه جمع فعل.
(١٥٠) يقول: مثل هذا الفعل فليفعل من يطلب الأعادي، وليكن طلابه مثل هذا السرى الذي سرت حتى بلغت مرادك، فقوله كذا في موضع نصب بقوله فليسر، والفاء إنما تعطف أو تكون جوابًا، فإذا تقدم المفعول أو الخبر جاءوا بها ليعلموا أن الخبر وضع في غير موضعه، وبعض الكوفيين تأول أخاك فاضرب؛ أنه منصوب بفعل مضمر تقديره اقصد أخاك فاضرب، وهذا يحسن في المفعول، وأما في الخبر فيبعد، وقوله: مثل سراك؛ نصب لأنه خبر فليكن.
(١٥١) نصب كناية على المصدر، كأنه قال كنيت كناية، يقول: يا أخت سيف الدولة ويا بنت أبي الهيجاء، وهو المراد بأشرف النسب، فكنى عن ذلك، يريد أن نسبها من أشرف الأنساب، فإذا كنيت بهما عرفت لأنهما خير الناس، فإذا قلت يا أخت خير أخ ويا بنت خير أب عرفت.
(١٥٢) مؤبنة: حال من الياء في تسمي؛ أي حال كونك مؤبنة؛ أي مرثية من التأبين، وهو الثناء على الميت، يقول: أنت أجل من أن أعرفك باسمك بل وصفك يعرفك بما فيك من المحاسن والمحامد التي ليست في غيرك، وهذا يغني عن تسميتك، كما قال أبو نواس:
فَهْيَ إِذَا سُمِّيَتْ لَقَدْ وُصِفَتْ
فَيَجْمَعُ الِاسْمَ مَعْنَيَيْنِ مَعَا
(١٥٣) الطرب: صفة من الطرب، وهو خفة تعتري عند شدة الفرح أو الحزن والهم، قال النابغة الجعدي في الهم:الواله: الثاكل، والمختبل: الذي اختبل عقله؛ أي جن.
يقول المتنبي: من استخفه الحزن غلبه على لسانه ودمعه فلا يملكهما؛ لأنهما إذ ذاك يكونان في قبضة الطرب أي الحزن، يصرفهما كما يشاء.
سَأَلَتْنِي أَمَتِي عَنْ جَارَتِي
وَإِذَا مَا عَيي ذُو اللُّبِّ سَأَلْ
سَأَلَتْنِي عَنْ أُنَاسٍ هَلَكُوا
شَرِبَ الدَّهْرُ عَلَيْهِمْ وَأَكَلْ
وَأَرَانِي طَرِبًا فِي إِثْرِهِمْ
طَرَبَ الْوَالِهِ أَوْ كَالْمُخْتَبَلْ
يقول المتنبي: من استخفه الحزن غلبه على لسانه ودمعه فلا يملكهما؛ لأنهما إذ ذاك يكونان في قبضة الطرب أي الحزن، يصرفهما كما يشاء.
(١٥٤) اللجب: الضجيج واختلاط الأصوات، وجيش لجب عرمرم؛ أي ذو جلبة وكثرة، وبحر ذو لجب إذا سمع صوت أمواجه، وأصله كل صوت عال، يقول: غدرت يا موت بسيف الدولة إذ أخذت أخته وأنت تفني به العدد الكثير، وتهلك الجيوش، وتسكت ضجيجهم، وإذا كان عونك على الإفناء كان من حقك أن ترعى ذمته ولا تفجعه بأخته، وقيل معنى البيت: أنه مات بموتها خلق كثير، وسكت لجبهم وترددهم في خدمتها، أو أنهم سقطوا عن برها وصلاتها، فكأنهم ماتوا. قال الواحدي: وجه غدر الموت أنه أظهر إهلاك شخص وأضمر فيه إهلاك عالم كان يحسن إليهم فهلكوا بهلاكه. هذا معنى: كم أفنيت من عدد، وهذا كقول القائل:وكقول ابن المقفع:
وَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ
وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
وَأَنْتَ تَمُوتُ وَحْدَكَ لَيْسَ يَدْرِي
بِمَوْتِكَ لَا الصَّغِيرُ وَلَا الْكَبِيرُ
وَتَقْتُلُنِي فَتَقْتُلُ بِي كَرِيمًا
يَمُوتُ بِمَوْتِهِ بَشَرٌ كَثِيرُ
(١٥٥) يقول: وكم صحبت أخاها يا موت في غزواته، وطلبت إليه أن يمكنك من إهلاك من أردت فأجابك إلى ذلك، ومكنك بسيفه ممن أردت؟ وهذا كقوله الآتي في قافية اللام:
شَرِيكُ الْمَنَايَا وَالنُّفُوسُ غَنِيمَةٌ
فَكُلُّ مَمَاتٍ لَمْ يَمُتْهُ غُلُولُ
(١٥٦) الجزيرة: ما بين دجلة والفرات، وخبر تنازعه كل من طوى وجاءني، يقول: لما جاءني هذا النعي، وطوى الجزيرة حتى ورد علي في الكوفة رجوت أن يكون كذبًا، وتعللت بهذا الرجاء.
(١٥٧) يقول: حتى إذا صح الخبر ولم يبقَ رجاء في أن يكون كذبًا غصصت بالدمع؛ لغلبة البكاء، وكثرة الدموع، حتى كاد الدمع يشرق بي؛ أي حتى صرت بالقياس إلى الدموع كالشيء الذي يغص به في القلة، والشرق بالدمع أن يقطع الانتحاب نفسه، ومحصل المعنى: كاد الدمع لإحاطته بي أن يكون كأنه غص بي.
(١٥٨) لم يلحق الباء في به بالهاء، واكتفى بالكسرة ضرورة، والبرد جمع بريد — وسكن الراء على لغة تميم — والبريد: كلمة فارسية أصلها بريده دم؛ أي محذوف الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، ثم سمي الرسول الذي يركب دواب البريد بريدًا، يقول: لهول هذا الخبر تلجلجت به الألسنة في الأفواه، وتعثرت الرسل الحاملة له في الطرق، ورجفت أيدي الكتاب في كتابته.
(١٥٩) فعلة: كناية عن اسم المرثية، وهو خولة، يقول: مضت فكأنها لم تكن تلك التي ملأت جيوشها ديار بكر، والتي كانت تهب وكانت تخلع فانطوى ذلك بموتها.
(١٦٠) بالويل: متعلق بداعيًا، وتولية؛ أي ذهاب وإدبار؛ مصدر ولي، والويل: الهلاك، والحرب: ذهاب المال، حرب الرجل: سلب ماله، والداعي بالويل والحرب الذي يصيح: وا ويلاه، وا حرباه. يقول: ولقد كانت ترد حياة الملهوف بالإغاثة والإجارة والبذل، وتغيث من يدعوها إذا دعاها بالويل والحرب.
(١٦١) يقول: طال ليل أهل العراق مذ أتاهم نعيها حزنًا عليها، فكيف ليل أخيها سيف الدولة في حلب؟ قال العكبري: ليس لهذا البيت معنى طائل، وفيه سماجة …
(١٦٢) أراد: أيظن، فحذف حرف الاستفهام، والضمير لسيف الدولة، ويروى بالتاء على الخطاب. يقول: أتظن أني غير حزين.
(١٦٣) بلى: حرف جواب تختص بالنفي، وتفيد إبطاله سواء كان مجردًا أم مقرونًا بالاستفهام. يقول: بلى فؤادي ملتهب ودمعي منسكب بحق حرمة من كانت تراعي حرمة هذه الأمور، فقوله: وحرمة … إلخ: قسم.
(١٦٤) ومن مضت: عطف على من كانت — في البيت السابق — والخلائق: جمع خليقة بمعنى الخلق، والنشب: المال. يقول: وبحرمة من ماتت ولم تورث أخلاقها؛ لأنه لا يوجد بعدها من يشبهها فيها وإن كان مالها موروثًا.
(١٦٥) أترابها: لداتها ونظيراتها في العمر: جمع ترب — بكسر التاء — للمذكر والمؤنث. يقول: همها منذ صباها منصب في العلا وتدبير الملك بينما أقرانها همهن في اللهو واللعب، وهذا من قول حمزة بن بيض:
فَهَمُّكَ فِيهَا جِسَامُ الْأُمُورِ
وَهَمُّ لِدَاتِكَ أَنْ يَلْعَبُوا
(١٦٦) الشنب: قيل هو تحزيز أطراف الأسنان، وقيل صفاؤها ونقاؤها، وقيل تفليجها، وقيل طيب نكهتها، وقال الجرمي: سمعت الأصمعي يقول: الشنب برد الفم والأسنان، فقلت: إن أصحابنا يقولون هو حدتها حين تطلع، فيراد بذلك حداثتها وطراوتها؛ لأنها إذا أتت عليها السنون احتكت، فقال: ما هو إلا بردها، وقول ذي الرمة:يؤيد قول الأصمعي؛ لأن اللثة لا تكون فيها حدة. يقول: إن أترابها إذا جئن إليها رأين حسن مبسمها، ولا يعلم ما وراء شفتها من الشنب إلا الله؛ لأنه لم يذقه أحد، قال الواحدي: وأساء في ذكر حسن مبسم أخت ملك، وليس من العادة ذكر جمال النساء في مراثيهن. قال ابن جني: كان المتنبي يتجاسر في ألفاظه جدًّا، وفي معنى بيت المتنبي:
لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعْسٌ
وَفِي اللِّثَاثِ وفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ
لَا وَالَّذِي تَسْجُدُ الْجِبَاهُ لَهُ
مَا لِي بِمَا ضَمَّ ثَوْبُهَا خَبَرُ
وَلَا بِفِيهَا وَلَا هَمَمْتُ بِهَا
مَا كَانَ إِلَّا الْحَدِيثُ وَالنَّظَرُ
(١٦٧) مفرقها: موضع افتراق الشعر من الرأس، وهو مبتدأ خبره مسرة، قال ابن جني: وحسرة خبر إما عن مفرقها أو عنها تقديره: الميتة حسرة في قلوب البيض واليلب، إلى أن قال: والأجود أن يجعل مفرقها خبر المسرة، أو مسرة خبره، والجملة خبر مبتدأ محذوف؛ أي وهي مسرة في قلوب الطيب مفرقها، وهي حسرة في قلوب البيض واليلب، واليلب: الدروع اليمانية تتخذ من الجلود، أو جلود يخرز بعضها إلى بعض تلبس على الرءوس خاصة تحت البيض، واحدتها يلبة، قال عمرو بن كلثوم:قال الجوهري: ويقال اليلب ما كان من جُنَن الجلود، ولم يكن من الحديد، ومنه قيل للدرق يلب. قال الشاعر:قال: واليلب في الأصل ذلك الجلد قال أبو دهبل الجمحي:جوبها؛ أي ترسها، وجوب قاتر؛ أي ترس حسن التقدير، والبيض: جمع بيضة، وهي الخوذة من حديد، يقول: إن الطيب يسر باستعمالها إياه، والبيض واليلب يتحسران بتركها لبسهما؛ لأنهما من ملابس الرجال، واستعار لهما قلوبًا مجازًا لوصفه لهما بالمسرة والحسرة.
عَلَيْنَا الْبَيْضُ وَالْيَلبُ الْيَمَانِي
وَأَسْيَاف يقمْنَ وَيَنْحَنِينَا
عَلَيْهِمْ كُلُّ سَابِغَةٍ دِلَاصُ
وَفِي أَيْدِيهِمُ الَيَلبُ الْمُدَارُ
دِرْعِي دِلَاصٌ شَكُّهَا شَكُّ عَجَبْ
وَجَوْبُهَا الْقَاتِرُ مِنْ سَيْرِ الْيَلبْ
(١٦٨) المقانع: جمع مقنع ومقنعة، وهو ما تقنع به المرأة رأسها، وتقدير الشطر الأول: إذا رأى البيض أو اليلب رأس لابسه ورآها، فضمير رأى للبيض واليلب، وأفرد الضمير لأنهما مترادفان، فكأنهما شيء واحد. يقول: إذا رأى البيض رأس لابسه، ورأى هذه المرأة وهي تلبس المقانع رأى المقانع أعلى رتبة منه فازداد حسرة على تركها إياه وحرمانه ذلك.
(١٦٩) الحسب: شرف الآباء أو الفعال الصالح؛ أي شرف الفعل، وأنشد ثعلب:أي: له آباء يفعلون الخير ولا يفعله هو، يقول: إن لها عقل الرجال وحسبهم وإن خلقت أنثى.
وَرُبَّ حَسِيبِ الْأَصْلِ غَيْرُ حَسِيبِ
(١٧٠) تغلب: قبيلة سيف الدولة، والغلباء: في الأصل الغليظة الرقبة، والمراد العزيزة الأبية الممتنعة، وعبارة الواحدي: الغلباء: الغلاظ القلوب، نعتهم بغلظ الرقبة؛ لأنهم لا يذلون لأحد ولا ينقادون له، يقول: هي وإن كانت من تغلب — تلك القبيلة المعروفة بالعز والمنعة — بيد أن لها مع ذلك من الفضائل مما تنماز به عنهم وتفضلهم، كالخمر أصلها العنب، ولكن في الخمر من المزايا ما ليس في العنب، ومن ثم تفضله، وهذا مثل قوله: فإن المسك بعض دم الغزال.
(١٧١) جعلها وشمس النهار شمسين، ثم قال: ليت طالعتهما — وهي شمس النهار — غائبة وليت غائبتهما — وهي المرثية — لم تغب. يقول: إن في حياتها منافع جمة، فليتها بقيت وفقدنا الشمس.
(١٧٢) آب: رجع، يقول: وليت عين الشمس فداء عين المرثية التي غابت ولم ترجع.
(١٧٣) الهندية: السيوف، والقضب: جمع قضيب، وهو اللطيف الدقيق من السيوف يقول: ليس لها شبيه، لا من النساء ولا من الرجال.
(١٧٤) الصنائع: جمع صنيعة، وهي الإحسان واليد. يقول: إذا ذكرت صنائعها بكيت لمحبتي إياها، وسبب محبتي هو صنائعها لدي وإحسانها إلي، وروى ابن جني: بلا ود ولا سبب؛ أي ليس بكائي لود أو سبب سوى صنائعها التي أولت، فهي تذكرني فأبكي.
(١٧٥) يقول: كانت محجوبة عن الأعين بأوفى حجاب فأحبت الأرض أن تكون من حجبها فانضمت عليها، فكأنَّ الأرض لم تقنع بما حولها من الحجاب حتى حجبتها بنفسها.
(١٧٦) يقول: لم تكن عيون الناس تصل إليها، فهل حسدت الكواكب يا أرض على النظر إليها فواريتها عنهن؟
(١٧٧) قال الواحدي: يقول للأرض: هل سمعت سلامًا لي أتاها؟ يريد أنه يجهز إليها السلام والدعاء، وسأل الأرض عن بلوغ سلامه إليها، ثم قال: وقد أطلت التأبين والمرثية، وتجهيز السلام عليها، ولم أسلم عليها من قرب؛ لأنها ماتت على بعد منه، ولك أن تقول: إن المعنى بعبارة أخرى: هل سمعتني يا أرض أسلم عليها؟ أي هل رأيتني قريبًا منها فحسدتني على قربها فقد أطلت اليوم من السلام عليها ولم أسلم من قرب؟ قال الواحدي: ولم يعرف ابن جني معنى هذا البيت، فجعل الاستفهام فيه إنكارًا وقال. يقول: قد أطلت السلام عليها وأنا بعيد عنها، فهل سمعت يا أرض سلامي قريبًا منها؟
(١٧٨) الغيب: جمع غائب، مثل خدم وخادم. يقول: كيف يبلغ السلام أمواتنا المدفونين، وهو قد يقصر عن بلوغ أحيائنا الغائبين؟ وكأن هذا مبني على معنى البيت السابق؛ أي إن سلامه لم يكن يبلغها في حياتها للبعد الذي بينهما، فكيف يبلغها بعد موتها؟ والظاهر أن الكلام على عمومه، وليس فيه — كما ذهب بعضهم — تعريض بسيف الدولة، وأن يقصر سلامه دونه.
(١٧٩) أولى القلوب بها: هو قلب أخيها — أي سيف الدولة — والضمير في لصاحبه يعود على أولى القلوب، وصاحبه هو سيف الدولة. يقول: يا أحسن الصبر زر قلب سيف الدولة الذي هو أولى القلوب بمودتها والجزع عليها، وقل لصاحب هذا القلب يا أنفع السحب؛ أي إن عطاءه أهنأ؛ لأنه بغير أذى، والسحاب قد يؤذي سيله وتهلك صواعقه.
(١٨٠) وأكرم الناس: عطف على أنفع السحب، والنجب: جمع نجيب، وهو الكريم من كل شيء ورجل نجيب؛ أي كريم فاضل بين النجابة، والنجبة مثال الهمزة النجيب، يقال هو نجبة القوم إذا كان النجيب منهم، وأنجب الرجل؛ أي ولد ولدًا نجيبًا. قال الأعشى:وسيمر بك شرح هذا البيت في موضع آخر.
وامرأة منجبة ومنجاب؛ أي تلد النجباء يقول: وقل له يا أكرم الناس غير مستثن أحدًا سوى آبائك الكرام، قال العكبري: وهذا لفظ منكر يدخل فيه الأنبياء ومن دونهم. أقول: وهي إحدى مبالغات المتنبي القبيحة.
أَنْجَبَ أَزْمَانَ وَالِدَاهُ بِهِ
إِذْ نَجْلَاهُ فَنِعْمَ مَا نَجلَا
وامرأة منجبة ومنجاب؛ أي تلد النجباء يقول: وقل له يا أكرم الناس غير مستثن أحدًا سوى آبائك الكرام، قال العكبري: وهذا لفظ منكر يدخل فيه الأنبياء ومن دونهم. أقول: وهي إحدى مبالغات المتنبي القبيحة.
(١٨١) يريد بالشخصين: أختيه. ماتت إحداهما — وهي الصغرى — وبقيت الكبرى، فكانت كدر فدي بذهب، جعل الكبرى كالدر، والصغرى كالذهب.
(١٨٢) المتروك: هو الدر، والتارك: الدهر، يقول: وبعد ذلك عاد الدهر يطلب الكبرى وأخذها؛ لأن الأيام لا تغفل عن طلب ما تركته، وهذا البيت والذي قبله كأنهما من قول الأعرابي:
وَقَاسَمَنِي دَهْرِي بَنِيَّ مُشَاطِرًا
فَلَمَّا تَقَضَّى شَطْرُهُ عَادَ فِي شَطْرِي
(١٨٣) الورد: إتيان الإبل الماء، والقرب: سير الليل لورد الغد، وذلك أن القوم يرعون الإبل وهم في ذلك يسيرون نحو الماء، فإذا بقيت بينهم وبين الماء عشية عجلوا نحوه، فتلك الليلة ليلة القرب، يقول: إن أجليهما كانا متقاربين جدًّا حتى إن المدة التي بينهما كانت لقصرها كأنها المدة التي بين الورد والقرب، وهي ليلة.
(١٨٤) يقول: غفر الله لك أحزانك؛ لأن الحزن للمصيبة أخو الغضب على القدر حيث لم يجر بمراد الإنسان، والغضب على القدر مما يستغفر منه.
(١٨٥) يسخون؛ أي النفوس، ووزنه يفعلن، فالواو لام الفعل، والنون علامة الإضمار وجمع التأنيث، وهو مثل إِلَّا أَن يَعْفُونَ أي النساء، ويروى تسخون — بلفظ خطاب الذكور — والسلب: ما يؤخذ من القتيل من ثياب وسلاح، وفي الحديث الصحيح: «من قتل قتيلًا فله سلبه.» يقول: إنما تحزن؛ لأن الدهر سلبك المرثية، وأنتم قوم أهل عزة وأنفة، تجودون بالذي تعطونه عن طيب نفس، ولا تجودون بما يؤخذ منكم قهرًا، وهذا المعنى كقول القائل:
لَا جَزَعًا بَلْ أَنَفًا شَابَهُ
أَنْ يَقْدِرَ الدَّهْرُ عَلَى غَصْبِهِ
(١٨٦) القنا: عيدان الرماح، يقول: أنتم بين الملوك كالقنا بين سائر القصب والقنا يفضل سائر أنواع القصب، وكذلك أنتم تفضلون سائر الملوك.
(١٨٧) النبع: شجر صلب ينبت في رءوس الجبال تتخذ منه القسي، والغرب: نبت ضعيف ينبت على الأنهار، يدعو له يقول: لا أصابتك الليالي بسوء، فإنها تغلب القوي بالضعيف.
(١٨٨) الخرب ذكر الحبارى (الحبارى: طائر أكبر من الدجاج الأهلي وأطول عنقًا، وهو أنواع كثيرة، ويضرب به المثل في البلاهة فيقال: أبله من الحبارى؛ قيل: لأنه إذا غير عشه ذهل وحضن بيض غيره) وجمعه خربان، يدعو له أن لا تعين الليالي من عاداه فإنهن يصدن القوي بالضعيف، وهو بسبب من معنى البيت السابق.
(١٨٩) يقول: إن سرتك الأيام بوجود ما تحبه فجعتك بفقده إذا استردته، وقد أرينك العجب حيث سررنك بها، ثم فجعنك بفقدها، فكانت سببًا للسرور والفجيعة، وهذا عجب أن يكون شيء واحد سببًا للمسرة والمساءة.
(١٩٠) يقول: قد يحسب الإنسان أن المحن قد تناهت فيلم به شيء لم يكن في حسبانه، وإذن لا تؤمن فجعات الدهر.
(١٩١) اللبانة: الحاجة، والأرب: الغرض، فهما متقاربان، يقول: لم يقضِ أحد حاجته من الدنيا؛ لأن حاجات الإنسان لا تنقضي، فإذا فرغ من أرب انتهى إلى أرب آخر، وذلك كما يقول أمية بن أبي الصلت:
تَمُوتُ مَعَ الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ
وَتَبْقَى لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِي
(١٩٢) الشجب: الهلاك، والخلف: الاختلاف، والمراد بالنفس: الروح. يقول: جرى خلف الناس في كل شيء، ولم يتفقوا إلا على الهلاك؛ أي إن منتهى كل حيوان أن يموت فيهلك، ثم اختلفوا في حقيقة الهلاك؛ ففريق يقول: إن الروح تسلم من الهلاك ولا تفنى بفناء الأجسام — وهؤلاء هم المقرون بالبعث — وفريق يذهب إلى أن الروح يفنى كالجسم — وهؤلاء هم الدهريون ومن يقول بقدم العالم.
(١٩٣) الشجب: الهلاك، والخلف: الاختلاف، والمراد بالنفس: الروح. يقول: جرى خلف الناس في كل شيء، ولم يتفقوا إلا على الهلاك؛ أي إن منتهى كل حيوان أن يموت فيهلك، ثم اختلفوا في حقيقة الهلاك؛ ففريق يقول: إن الروح تسلم من الهلاك ولا تفنى بفناء الأجسام — وهؤلاء هم المقرون بالبعث — وفريق يذهب إلى أن الروح يفنى كالجسم — وهؤلاء هم الدهريون ومن يقول بقدم العالم.
(١٩٤) المهجة: الروح، يقول: من فكر في الدنيا، وأنه مفارقها البتة أتعبه هذا الفكر؛ لما يجد في ذلك من الأسف على الدنيا، والخوف على روحه؛ ثم رأى في الوقت نفسه أن ذلك قضاء حتم لا يستطيع الفرار منه، فيرى نفسه بين حالين من التعب والعجز.
(١٩٥) هذه القصيدة من المتقارب، وتقطيعها فعولن أربع مرات، دخله القصر فصار فعولن فعولن فعولن فعل، وقد ارتكب أبو الطيب فيها سناد التوجيه، وهو المخالفة في حركة ما قبل الروي المقيد، ومن الناس من لا يعده سنادًا اكتفاء باتفاق الروي.
(١٩٦) سمعًا وطوعًا وابتهاجًا: ثلاثتها مصادر دلت على أفعالها؛ أي سمعت أمرك سمعًا، وطعت طاعة، وابتهجت بكتابك ابتهاجًا، والابتهاج: الفرح، يقال: بهِج بالشيء وله — بالكسر — بهاجة وابتهج: سر به وفرح. قال الشاعر:يقول: إني سامع لأمرك، مطيع له، مبتهج بكتابك بيد أن فعلي في طاعتك لا يبلغ ما يجب، إذ إنني قصرت بتخلفي عن المجيء إليك.
كَانَ الشَّبَابُ رِدَاءً قَدْ بَهِجْتُ بِهِ
فَقَدْ تَطَايَرَ مِنْهُ لِلْبِلَى خِرَقُ
(١٩٧) سمعًا وطوعًا وابتهاجًا: ثلاثتها مصادر دلت على أفعالها؛ أي سمعت أمرك سمعًا، وطعت طاعة، وابتهجت بكتابك ابتهاجًا، والابتهاج: الفرح، يقال: بهِج بالشيء وله — بالكسر — بهاجة وابتهج: سر به وفرح. قال الشاعر:يقول: إني سامع لأمرك، مطيع له، مبتهج بكتابك بيد أن فعلي في طاعتك لا يبلغ ما يجب، إذ إنني قصرت بتخلفي عن المجيء إليك.
كَانَ الشَّبَابُ رِدَاءً قَدْ بَهِجْتُ بِهِ
فَقَدْ تَطَايَرَ مِنْهُ لِلْبِلَى خِرَقُ
(١٩٨) الوشاة، جمع واشٍ، وهو النمام. يقول: لم يمنعني من النهوض إليك غير خوفي الوشاة، فإن الوشايات من طرق الكذب فلا يأمنها البريء.
(١٩٩) وتكثير قوم وتقليلهم؛ أي تكثيرهم معائبنا وتقليلهم مناقبنا، والتقريب ضرب من العدو، يقال قرب الفرس: إذا رفع يديه معًا ووضعهما معًا في العدو، والخبب: السرعة، وقيل: هو أن يراوح الفرس بين يديه ورجليه في العدو، يقول: وعاقني أيضًا خوف تكثير قوم معائبي، وتقليلهم مناقبي، وسعيهم بيننا بالفساد.
(٢٠٠) يقول: إنه كان يصغي إليهم ويسمع منهم، بيد أن قلبه كان على أية حال معي يعضده في ذلك شرفه، فعد إصغاءه إليهم نصرًا لهم، ونزاعه إليه نصرًا له.
(٢٠١) اللجين: الفضة، والأناة: الحلم والرفق والتثبت، وبعد الأناة كناية عن كونه لا يستخف من أول وهلة، وقوله فيقلق: جواب النفي في البيت الأول، والضمير في منه يعود على المصدر المفهوم من قوله قلت؛ أي فيقلق من قولي هذا، يقول إنني لم أنقصك مما تستحق من المدح شيئًا كما ينقص البدر بتشبيهه باللجين والشمس بتشبيهها بالذهب؛ أي لم أهجك فتنكر علي ولم آتِ في حقك ما يوجب أن ينزعج له مثلك في بعد أناته وبطء غضبه.
(٢٠٢) اللجين: الفضة، والأناة: الحلم والرفق والتثبت، وبعد الأناة كناية عن كونه لا يستخف من أول وهلة، وقوله فيقلق: جواب النفي في البيت الأول، والضمير في منه يعود على المصدر المفهوم من قوله قلت؛ أي فيقلق من قولي هذا، يقول إنني لم أنقصك مما تستحق من المدح شيئًا كما ينقص البدر بتشبيهه باللجين والشمس بتشبيهها بالذهب؛ أي لم أهجك فتنكر علي ولم آتِ في حقك ما يوجب أن ينزعج له مثلك في بعد أناته وبطء غضبه.
(٢٠٣) لاقني: أمسكني وحبسني، يقال منه: فلان لا يليق ببلد؛ أي ما يمتسك، ولا يليقه بلد؛ أي لا يمسكه، قال الأصمعي للرشيد: ما ألاقتني أرض حتى أتيتك يا أمير المؤمنين؛ أي ما ثبت بها، ويقال فلان ما يليق بكفه درهم: أي ما يحتبس، وما يليق هو درهمًا؛ أي ما يحبسه ولا يلصق به. قال الشاعر:ورب نعماي: صاحب نعمتي، ووقف على الباء من قوله رب — وهي موضع نصب — ضرورة للقافية، وخففها — وحكمها التشديد — لوقوعها رويا. يقول: ما أخذت عوضًا منكم، ولا أمسكني بلد بعدكم، ولا أعجبني، ولا لي مستقر إلا عندكم، إذ لا أصيب مثلكم، وكيف آخذ عوضًا ممن أنعم عليَّ؟ وهذا مثل قوله:
كَفَاكَ كَفٌّ مَا تَلِيقُ دِرْهَمَا
جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا
وَمَنِ اعْتَاضَ مِنْكَ إِذَا افْتَرَقْنَا
وَكُلُّ النَّاسِ زُورٌ مَا خَلَاكَا
(٢٠٤) الأظلاف: جمع ظلف، وهو من البقرة والشاة والظبي بمنزلة القدم للإنسان والخف للبعير، والحافر للفرس والبغل والحمار، والغبب والغبغب: للبقر والديك ما تدلى تحت حنكيهما. جعل الجواد مثلًا لسيف الدولة، والثور مثلًا لمن لقي بعده من الملوك، وهذا كقول خداش بن زهير:قال الخطيب: ذكر الركوب هنا فيه جفاء، ولا تخاطب الملوك بمثل هذا.
وَلَا أَكُونُ كَمَنْ أَلْقَى رِحَالَتَهُ
عَلَى الْحِمَارِ وَخَلَّى صَهْوَةَ الْفَرَسِ
(٢٠٥) بمن في حلب، متعلق بقست، وقوله فدع ذكر بعض: معترضة بينهما يقول: لم أقس كل الملوك به فضلًا أن أقيس به بعضهم، ولو أنا شبهتهم به وسميتهم سيوفًا — كما يسمى هو سيف الدولة — لكانوا سيوفًا من خشب، وكان هو سيفًا من حديد: يعني أن مدحه إياه حقيقة، ومدحه إياهم مجازًا، إذا لا شبه بينهم وبينه.
(٢٠٦) بمن في حلب، متعلق بقست، وقوله فدع ذكر بعض: معترضة بينهما يقول: لم أقس كل الملوك به فضلًا أن أقيس به بعضهم، ولو أنا شبهتهم به وسميتهم سيوفًا — كما يسمى هو سيف الدولة — لكانوا سيوفًا من خشب، وكان هو سيفًا من حديد: يعني أن مدحه إياه حقيقة، ومدحه إياهم مجازًا، إذا لا شبه بينهم وبينه.
(٢٠٧) هذا استفهام إنكار يقول: ليس يشبهه أحد من الملوك في شيء من ذلك.
(٢٠٨) مبارك الاسم؛ لأن اسمه علي، وهو مشتق من العلو، محبوب مطلوب، ولأنه سمي علي بن أبي طالب، وهو من هو؟ وأغر اللقب، لأنه سيف الدولة، وقد اشتهر هذا اللقب فهو أغر؛ أي متعالم مشهور أبلج، وكريم الجرشى: أي النفس، وشريف النسب، لأنه من ربيعة، وهم كرام أشراف، وكلمة الجرشى: من قبيح ألفاظ المتنبي.
(٢٠٩) أخو الحرب؛ أي عرفت به وعرف بها فصار لها أخًا، وقناة: فاعل سبى: أي رماحه. يقول: هو أخو الحرب وصاحبها، فإذا أعطى أحدًا خادمًا فهو مما سباه بنفسه، لا مما اشتراه؛ لأن مماليكه جميعًا من سباياه، وإذا خلع على إنسان ثوبًا فهو مما سلبه من أعدائه، يريد كثرة نكايته في الأعداء.
(٢١٠) فتى: فاعل حازه من باب التجريد. يقول: إذا جمع مالًا لا يسر منه بما يدخر، ولكن بما يهب، وهذا كقول البحتري:
لَا يَتَمَطَّى كَمَا احْتَجَّ الْبَخِيلُ وَلَا
يُحِبُّ مِنْ مَالِهِ إِلَّا الَّذِي يَهَبُ
(٢١١) يقول: كلما ذكرته دعوت له بهذين، فقلت له صلى الله عليه وسقى أرضه السحاب، والصلاة من الله الرحمة، وقد جرى العرف بقصر الصلاة على الأنبياء، ولكن الشعراء ديدنهم المبالغة وتعظيم الممدوح ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وقد قال ابن الرقاع:وقال الراعي:
صَلَّى الْإِلَهُ عَلَى امْرِئٍ وَدَّعْتُهُ
وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَزَادَهَا
صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمَنُ وَابْنَتِهَا
لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الْأُخَرِ
(٢١٢) يقول: أثنى عليه بما وصل إليَّ وإلى غيري من نعمه، وأقرب منه بالموالاة والمحبة: أقربت محلته أم بعدت.
(٢١٣) الغدران: جمع غدير، وهو البقية من الماء تبقى بعد السيل؛ من غادره تركه، قال الخطيب التبريزي: سمى الغدير غديرًا لمعنيين؛ أحدهما: لأن الغيث تركه، والثاني: لأنه يغدر بأهله فينضب عنهم عند الحاجة، ونضب الماء، غار في الأرض وبعد، وما: من قوله ما نضب: نافية، يقول: إذا كان بره قد انقطع عني فإن ما سبق إليَّ منه باقٍ كالغدران تبقى بعد المطر.
(٢١٤) الشطب — بضم الشين والطاء، وبفتح الطاء — جمع شطبة وهي الطرائق التي في متن السيف، وسيف مشطب ومشطوب: فيه طرائق، وكذلك ثوب مشطب. يقول: لست سيفًا كسائر السيوف، فأنت سيف الله لا سيف الناس، وأنت صاحب المكارم لا سيف فيه طرائق من سيوف الحديد.
(٢١٥) أبعد وأعرف وأطعن وأضرب: منصوبة على النداء المضاف، والخطية: الرماح، يقول: يا أبعد الناس همة ويا أعرف الناس برتب الرجال وطبقاتهم فتعطي كلًّا منهم المنزلة التي يستحقها، ويا أطعن من مس رمحًا، وأضرب من ضرب بسيف.
(٢١٦) أبعد وأعرف وأطعن وأضرب: منصوبة على النداء المضاف، والخطية: الرماح، يقول: يا أبعد الناس همة ويا أعرف الناس برتب الرجال وطبقاتهم فتعطي كلًّا منهم المنزلة التي يستحقها، ويا أطعن من مس رمحًا، وأضرب من ضرب بسيف.
(٢١٧) قوله بذا؛ أي بأطعن وأضرب، والثغور: مواضع المخافة من فروج البلدان؛ والهمام: الرءوس، والقضب: السيوف القواطع، يقول: إن أهل الثغور نادوك بقولهم يا أطعن من طعن بخطية، ويا أضرب من ضرب بحسام فأجبتهم ورءوسهم تحت سيوف الروم تكاد تطيرها.
(٢١٨) غارت العين: دخلت في الرأس؛ أي من شدة العرب، والوجيب خفقان القلب. يقول: إنك أجبتهم حين نادوك وقد يئسوا من الحياة، فهم في خوف ورعب واضطراب حتى أنقذتهم.
(٢١٩) الدمستق: قائد الروم، والعداة: جمع عاد بمعنى عدو، والثقيل: الشديد المرض، والوصب: المريض، يقول: إنما اجترأ الدمستق على أهل الثغور؛ لأنه اغتر بما أرجف به الأعداء من أنك مريض لا تستطيع إغاثتهم.
(٢٢٠) يقول: وما كان ينبغي للدمستق أن يغتر؛ لأن سيف الدولة إذا هم بالغارة وهو عليل ركب إلى أعدائه كما تعلم خيله من عادته.
(٢٢١) أتاهم؛ أي الدمستق، وبأوسع؛ أي بخيل أوسع، وطوال وقصار منصوبان على الحال، والسبيب: شعر الناصية والعرف والذنب: والعسب جمع عسيب، وهو منبت الذنب. يقول: أتاهم الدمستق بخيل موضعها من الأرض أوسع من أرض الروم؛ يصف عسكر الروم بالكثرة. ثم وصف خليهم بأنها من جياد الخيل؛ لأن طول شعر الذنب وقصر عظمه، مما يستحب في الخيل.
(٢٢٢) يقول: إذا علا جيشه الشواهق — أي الجبال العالية — غطاها لكثرته فغابت فيه، وإذا تخلل جوانبها ظهرت صغارًا بالإضافة إليه وإلى سعته وانتشاره حولها.
(٢٢٣) تخط — بحذف إحدى التاءين — أي تتخطى، والقنا: الرماح، يقول: لكثرة رماح هذا الجيش وتضايق ما بينها غص الهواء بها فلا تجد الريح منفذًا إلا أن تتخطى الرماح؛ أي تكون أعلى طريقًا منها أو تثب من فوقها.
(٢٢٤) اللجب: كثرة الأصوات واختلاطها. يقول: أتاهم من الجيوش بما عم بلادهم فكأنها أغرقتها، وأخفى أصواتهم بأصوات جيوشه؛ لكثرتها وارتفاعها.
(٢٢٥) أخبث به: صيغة تعجب؛ أي ما أخبثه في الحالين، ويروى الثاني، وأخيب به تاركًا، من الخيبة، وطالبًا وتاركًا: حالان، يقول: ما أخبثه حين يحاول قتلهم؛ لأنه استدبر في ذلك سيف الدولة خسة منه وجبنًا، وما أخيبه إذ ترك هذه المحاولة وولَّى هاربًا يطلب النجاة.
(٢٢٦) يقول: لما كنت بعيدًا عن أهل الثغور أتاهم فقاتلهم بالمبارزة، فلما جئت جعل الهرب موضع القتال؛ أي حمى نفسه بالهرب، فكأنما قاتلهم به كي ينجو.
(٢٢٧) يقول: إنه كان يفتخر بأن قصدهم وصمد لقتالهم، فلما ارتد عنهم هاربًا كنت عذرًا له في ارتداده؛ لأنه لا يقوم لك، ومثلك من يفر منه يعذر.
(٢٢٨) يقول: إنك أدركتهم قبل أن يعصف بهم فأغثتهم قبل أن يعطبوا، وإنما ينفع الغوث إذا كان قبل العطب والهلاك، أما بعد ذلك فلا قيمة للغوث؛ وهذا المعنى ينظر إلى قول أبي تمام:وقول البحتري:
وَمَا نَفْعُ مَنْ قَدْ مَاتَ بِالْأَمْسِ ظَامِئًا
إِذَا مَا سَمَاءُ الْيَوْمِ طَالَ انْهِمَارُهَا
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْغَيْثَ لَيْسَ بِنَافِعٍ
لِلنَّاسِ مَا لَمْ يَأْتِ فِي إِبَّانِهِ
(٢٢٩) الصلب: جمع صليب، وهو ذلك الذي يتخذه المسيحيون في بيوتهم وبيعهم على شكل المصلوب. يقول: لما أنقذتهم وفر الدمستق سجدوا لله شكرًا، ولو لم تنقذهم لسجدوا لصلبان الأعداء خوفًا منهم.
(٢٣٠) يقول: كم دفعت عنهم الهلاك بإهلاكك من بغى هلاكهم؟ وكم كشفت عنهم الكرب بالكرب التي أنزلتها بأعدائهم؟
(٢٣١) المعتصب؛ أي المتوج الذي يعتصب التاج برأسه. يقول: وقد زعم الروم أن الدمستق سيعود ومعه الملك الأعظم، وعبر عن مجيء الملك بالعود مع أنه لم يكن قبل ذلك قصدهم؛ للمشاكلة بين الفعلين، على أن عاد قد يراد بها الإتيان لأول مرة كما قال:أي أتتني.
فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً
إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
(٢٣٢) يقول: إن الدمستق والملك يستنصران السيد المسيح، ويسألانه النصرة على المسلمين، وهما يعتقدان أن المسيح صلبته اليهود وقتلته.
(٢٣٣) عنهما: صلة يدفع. يقول: ويطلبان أن يدفع السيد المسيح عنهما ما ناله من القتل في اعتقادهم، ثم تعجب من هذا، وقال: وكيف يستطيع أن يدفع عنهما الهلاك وهو لم يستطع الدفاع عن نفسه؟ ولام فيا للرجال: مفتوحة، لأنها للمستغاث به، ولام لهذا: لام التعجب، وهي مكسورة، أنشد سيبويه لقيس بن ذريح:
تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَأَزْعَجُونِي
فَيَا للنَّاسِ لِلْوَاشِي الْمُطَاعِ
(٢٣٤) يقول: أرى المسلمين قد هادنوا المشركين، واجتمعوا معهم، وتركوا قتالهم، وذلك: إما عجزًا عنهم، أو خوفًا منهم.
(٢٣٥) يقول: وأنت مع الله في جانب آخر تنزل على أمره بالجهاد فلا تنام عنه، وقد جانبت غيرك من المهادنين والموادعين.
(٢٣٦) يقول: كأنك وحدك الموحد لله تعالى، وسائر الناس يدينون بدين النصارى الذين يقولون بالابن والأب.
(٢٣٧) ظهرت عليهم: ظفرت بهم وغلبتهم، وكئب كآبة: حزن وظهر فيه الانكسار، يقول: ليت الحاسد الذي يكتئب لظفرك بالروم يقتل بسيوفك.
(٢٣٨) أراد بالشكاة: المرض الذي يشكوه، وقوله تجزي به؛ أي بالحب أو البغض، على أن الواو في قوله وحب: بمعنى أو، ولك أن ترجع الضمير إلى البغض والحب جميعًا؛ لأن كليهما من أفعال القلب، فكأنهما شيء واحد، والسبب: الوسيلة، يقول: ليت المرض الذي تشكوه في جسم الحاسد، وليتك تجزي من أبغضك ببغضه، ومن أحبك بحبه كي أنال نصيبًا من الحب، إذ لو جزيتني على حبي لك — وهو أقوى سبب، لأن حبي إياك أكثر من حب غيري — لنلت منك أقل حظ، يشكو إعراضه عنه، وأنه أقل الناس حظًا منه مع أنه أشد حبًّا له، وعبارة ابن جني: لو تناهيت في جزائك إياي على حبِّي إياك؛ لكان ضعيفًا بالإضافة إلى قوة حبي لك، قال أبو الفضل العروضي: وهذا لا يقوله مجنون لبعض نظرائه، ولمن هو دونه، فكيف ينسب المتنبي سيف الدولة إلى أنه لو احتشد وتكلف في جزائه لم يبلغ كنهه؟ وهذا الذي لاحظه العروضي لم يوفق فيه.
(٢٣٩) أراد بالشكاة: المرض الذي يشكوه، وقوله تجزي به؛ أي بالحب أو البغض، على أن الواو في قوله وحب: بمعنى أو، ولك أن ترجع الضمير إلى البغض والحب جميعًا؛ لأن كليهما من أفعال القلب، فكأنهما شيء واحد، والسبب: الوسيلة، يقول: ليت المرض الذي تشكوه في جسم الحاسد، وليتك تجزي من أبغضك ببغضه، ومن أحبك بحبه كي أنال نصيبًا من الحب، إذ لو جزيتني على حبي لك — وهو أقوى سبب، لأن حبي إياك أكثر من حب غيري — لنلت منك أقل حظ، يشكو إعراضه عنه، وأنه أقل الناس حظًا منه مع أنه أشد حبًّا له، وعبارة ابن جني: لو تناهيت في جزائك إياي على حبِّي إياك؛ لكان ضعيفًا بالإضافة إلى قوة حبي لك، قال أبو الفضل العروضي: وهذا لا يقوله مجنون لبعض نظرائه، ولمن هو دونه، فكيف ينسب المتنبي سيف الدولة إلى أنه لو احتشد وتكلف في جزائه لم يبلغ كنهه؟ وهذا الذي لاحظه العروضي لم يوفق فيه.
(٢٤٠) هو أبو سعيد المنبجي من بني المجيمر، قبيلة بمنبج من طيئ.
(٢٤١) رائي خطأ: يروى راء خطأ، وذلك على حد قولهم: ضارب عمرو وضارب عمرًا ويروى بدل هذين:يقول: أبعد عني يا أبا سعيد عتابك فلا تعاتبني؛ لأنك ترى الخطأ في زيارة الملوك صوابًا، ولست على رأيك.
فرب رأي أخطأ الصوابا
(٢٤٢) فإنهم؛ أي الملوك.
(٢٤٣) القرضاب: السيف القاطع، والذابلات: الرماح اللينة، والعراب: الخيل العربية. يقول: إنما يتوصل إلى الملوك، ويهتك الحجاب الذي أقاموه على أبوابهم بالسلاح والخروج عليهم لا بغير ذلك، وهذا بعض ما يشفُّ عن طموح المتنبي وآماله الكبار.
(٢٤٤) الصافيات: جمع صافية، وهي الخمر، والأكوب جمع كوب، وهو القدح لا عروة له.
(٢٤٥) أي يجودوا بالشراب.
(٢٤٦) الباترات: السيوف القواطع؛ يريد: أنه لا يطرب إلا على صليل السيوف؛ وهذا أيضًا إحدى هنواته التي تدل على بعد همته، ولا سيما إذا لوحظ أنه مما قاله في صباه، مثل الأبيات التي قبلها.
(٢٤٧) لما مات محمد بن إسحاق هذا رثاه المتنبي بأبياتٍ مطلعها:وستأتي، ثم استزاده بنو عم الميت فقال هذه الأبيات:وستمر بك، ثم سألوه أن ينفي الثلاثة عنهم، فقال:وتراها في قافية الراء، ثم سألوه زيادة في نفي الشماتة عنهم، فقال هذه الأبيات التي نحن بصددها.
إِنِّي لَأَعْلَمُ وَاللَّبِيبُ خَبِيرُ
غَاضَتْ أَنَامِلُهُ وَهُنَّ بُحُورُ
الْآلُ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
إِلَّا حَنِينٌ دَائِمٌ وَزَفِيرُ
(٢٤٨) اللام في قوله لأي: حشو ورفر لتقوية العامل، على حد قوله تعالى: إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ أيْ أيَّ صروف الدهر نعاتب، والوتر: الثأر. يشكو الدهر يقول: إن صروف الدهر ورزاياه كثيرة متوافرة، فلا يمكن معاتبتها ولا طلب الثأر منها.
(٢٤٩) العازب: البعيد، يقول: إنه كان في حياته إذا فقد الناس الصبر في الشدائد يعينهم ويحسن إليهم حتى يصبروا على ما ينوبهم بما ينالون منه، وقد روي يعطَى — بفتح الطاء — فيكون معناه: أنه كان يصبر في المواطن التي كان يصعب فيها الصبر.
(٢٥٠) العجاجة: الغبار، والأسنة: أطراف الرماح. جعل الغبار المرتفع في الهواء سماء، وجعل الأسنة لامعة فيها كالكواكب، وهذا من قول بشار:وقال أيضًا:وقال آخر:
كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا
وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهْ
خَلَقْنَا سَمَاءً فَوْقَنَا بِنُجُومِهَا
سُيُوفًا وَنَقْعًا يَقْبِضُ الطَّرْفَ أَقْتَمَا
نَسَجَتْ حَوَافِرُهَا سَمَاءً فَوْقَهَا
جَعَلَتْ أَسِنَّتَنَا نُجُومَ سَمَائِهَا
(٢٥١) تسفر: تنجلي، ومضارب: جمع مضرب، وهو حد السيف وظبته، وانفللن: انثلمن، والضرائب: جمع ضريبة، وهي الشيء المضروب بالسيف، يقول: إن هذه العجاجة تنجلي عنه، وقد تثلمت سيوفه من كثرة الضرب حتى صارت كأنها مضروبة لا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق