قوله: غير ذي رحم له؛ يروى: غير ذي رحم لنا، يقول: إن هناك أجنبيًّا لا يمت إليه أو إلينا بآصرة قرابة يظهر الأسف على فقد ابن أبينا — يريد ابن عمنا — فأبعدنا عنه باتهمامه إيانا بالشماتة ونحن أقرباؤه، فموته إنما يحزننا نحن لا غيرنا.
(٢٥٥) عرض أنا شامتون؛ أي عرض في مرثيته بأنا شامتون، والتعريض الإشارة إلى الغرض من غير تصريح، والعارضان: جانبا اللحية، والقواضب السيوف القاطعة، وقال الواحدي: قوله والإ فزارت يجوز أن يكون من كلام المعرض حكى عنه ما قال كأنه قال: هم شامتون بموته، وإلا فزارتني السيوف: أي قتلت بها إن لم يكن الأمر على ما أقول فيكون هذا تأكيدًا لما ذكر من شماتتهم، ويجوز أن يكون من كلام الذين ينفون الشماتة عن أنفسهم. يقول: إن لم يكن الأمر على ما ذكر فرمى الله عارضيه بالسيوف، فيكون هذا تأكيدًا لنفي الشماتة، وأن الأمر ليس على ما ذكر.
(٢٥٦) أن بين بني أب؛ أي إنه بين بني أب، فاسم إن هو ضمير الشأن، والنجل: الولد، ودبيب العقارب: كناية عن النميمة. يقول: أليس عجيبًا أن تدب عقارب يهودي بين بني أب أي إخوة فيوقع بينهم العداوة؟ يريد هذا الذي كان يمشي بينهم بالنميمة، وجعله ابن رجل يهودي مبالغة في أجنبيته عنهم، ويريد بوصفه بيهودي أنه خبيث دساس.
(٢٥٧) يقول: برغم أنه كان يغلب جميع الناس لم يقدر على الامتناع من الموت، فدل ذلك على أنه ليس لله غالب، وهذا من قول أبي تمام:هذا، وقال العكبري — تعليقًا على قوله: أن ليس: أن هي المخففة من الثقيلة، ولا تدخل إلا على الاسم، ولا تدخل على الفعل حتى يحجز بينه وبينها حاجز؛ لدخولها على الأسماء، كقوله تعالى: ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ تقديره: أنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، وكقوله تعالى: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ تقديره: أنه سيكون؛ فلا بد من حرف يحجز بينها وبين الفعل، وقد دخلت ها هنا على ليس — وهي فعل بلا حاجز — وذلك لضعف ليس عن الأفعال، ولأنها غير متصرفة كتصرف الأفعال، ومثله قوله تعالى: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ.
كُفِّي فَقَتْلُ مُحَمَّدٍ لِيَ شَاهِد
أَنَّ الْعَزِيزَ مَعَ الْقَضَاءِ ذَلِيلُ
(٢٥٨) أنى؛ أي كيف، وأنى بمعنى كيف كثير. قال تعالى: أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وكرب: من أفعال المقاربة، تقول: كرب أن يفعل كذا؛ أي كاد وقارب، يقول: إنه بكى في أطلال الأحبة بدمع قضى ما وجب لهم وشفاه مما ألم به من وجد، ثم رجع عن ذلك، وقال: وكيف أظن أن بكائي قضى ما يجب وشفى ما في نفسي من لوعة وهو لم يقضِ الحق ولم يشف الوجد ولا قارب أن يقضي، يريد أنه قاصر عن ذلك، وفي هذا البيت من البديع ما يسمونه الرجوع، وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض والإبطال، وهو كثير في كلام الشعراء، ومنه قول زهير:
قِفْ بِالدِّيَارِ الَّتِي لَمْ يُعْفِهَا الْقِدَمُ
بَلَى وَغَيَّرَهَا الْأَرْوَاحُ وَالدِّيَمُ
(٢٥٩) عاج بالمكان: وقف به، يقول: عطفنا على هذا الربع لنزوره فأذهب ما كان بقي من عقولنا بعد الفراق بتجديده ذكر الأحبة فضلًا عن أن يرد علينا ما كان قد ذهب منها لدى الفراق.
(٢٦٠) يقول: سقيت هذا الربع دموعًا سوائل ظنها مطرًا من جفون ظنها سحبًا.
(٢٦١) دار الملم لها طيف؛ أي هذا الربع هو دار التي ألم طيف لها، فدار: خبر مبتدأ محذوف، والألف واللام — في الملم — بمعنى التي، وطيف: فاعل ملم ولها حال مقدمة من قوله طيف. يقول: إن هذا الربع هو دار المرأة التي زارني لها طيف، أوعدني ليلًا؛ أي هددني بالهجر فما صدقت عيني؛ لأنها رأت خيالًا لأن ذلك كان رؤيا، ولا كذب الطيف في تهديده؛ لأنه هجرني بعد ذلك، إذ لم أنم بعدها.
(٢٦٢) ناءيته: باعدته: ويروى أنأيته؛ أي أبعدته، ودنا: قرب، وجمشته: غازلته وداعبته، ونبا: تجافى وتباعد، وأنبيته أنا: دفعته عن نفسي، وفي المثل: الصِّدْقُ يُنْبِي عَنْكَ لَا الْوَعِيدُ؛ أي إن الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد، ونبا السيف: إذا لم يعمل في الضريبة، ونبا بصري عن الشيء ونبا به منزله: إذا لم يوافقه، وأبى: امتنع، يقول: كلما أردت من هذا الطيف شيئًا قابلني بضده، وهذا قريب من قوله:
صَدَّتْ وَعَلَّمَتِ الصُّدُودَ خَيَالَهَا
(٢٦٣) الهيام: أن يذهب الرجل على وجهه لغلبة الهوى عليه، والطنب: حبل الخباء والسرادق ونحوهما، قال ابن جني، يقول: ملكت قلبي بلا كلفة ومشقة، فكانت كمن سكن بيتًا لم يتعب في إقامته ولا مد أطنابه، وقال الواحدي: وأحسن من هذا أن يُقال: اتخذت بيتًا من قلبي فنزلته، والقلب بيت بلا أطناب ولا أوتاد.
(٢٦٤) يقول: هي مظلومة القد — إذا شبه بالغصن، لأنه أحسن منه — وهي مظلومة الريق — إذا شبه بالعسل لأنه أحلى منه، والضرب — وهو العسل الأبيض الغليظ — يذكَّر ويؤنث؛ قال أبو ذؤيب الهذلي في تأنيثه:(يأوي مليكها؛ أي يعسوبها، ويعسوب النحل: أميره، والطنف: حيد يندر من الجبل قد أعيا بمن يرقى ومن ينزل، وقوله كلاب الأسافل: يريد أسافل الحي؛ لأن مواشيهم لا تبيت معهم؛ فرعاتها وأصحابها لا ينامون إلا آخر من ينام لاشتغالهم بحلبها.)
وَمَا ضَرَبٌ بَيْضَاءُ يَأْوِي مَلِيكُهَا
إِلَى طُنُفٍ أَعْيَا بِرَاقٍ وَنَازِلِ
بِأَطْيَبَ مِنْ فِيهَا إِذَا جِئْتَ طَارِقًا
وَأَشْهَى إِذَا نَامَتْ كِلَابُ الْأَسَافِلِ
(٢٦٥) الحلة: الثوب، ومطلوبًا: منصوب على الحال أو التمييز، يقول؛ إنها لأنسها ولين حديثها تطمع العاشق في نفسها، فإذا حاول ذلك محاول عز عليه مطلبه لعفتها وصيانتها، ومثل هذا قول بعضهم:
يُحْسَبْنَ مِنْ لِينِ الْحَدِيثِ دَوَانِيَا
وَبِهِنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ
(٢٦٦) يعيي: يعجز، والضمير في قابضه للشعاع، وشعاعها: فاعل يعيي، والطرف: النظر، ومقتربًا: حال، شبهها بشعاع الشمس في قربه من الطرف وبعده عن القبض عليه، وهذا كما يقول ابن عيينة:ويقول الطرماح:وأجمل من هذا قول العباس بن الأحنف:
وَقُلْتُ لِأَصْحَابِي هِيَ الشَّمْسُ ضَوْءُهَا
قَرِيبٌ وَلَكِنْ فِي تَنَاوُلِهَا بُعْدُ
هِيَ الشَّمْسُ لَمَّا أَنْ تَغَيَّبَ لَيْلُهَا
وَغَارَتْ فَمَا تَبْدُو لِعَيْنٍ نُجُومُهَا
تَرَاهَا عُيُونُ النَّاظِرِينَ إِذَا بَدَتْ
قَرِيبًا وَلَا يَسْطِيعُهَا مَنْ يَرُومُهَا
هِيَ الشَّمْسُ مَسْكَنُهَا فِي السَّمَاءِ
فَعَزِّ الْفُؤَادَ عَزَاءً جَمِيلا
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ إِلَيْهَا الصُّعُودَ
وَلَنْ تَسْتَطِيعَ إِلَيكَ النُّزُولَا
(٢٦٧) الترب: المساوي لغيره في العمر، ويقال اللدة، والشادن: من الظباء الذي قوي وترعرع واستغنى عن أمه؛ يريد به المحبوبة، واستضحك: بمعنى ضحك، والمغيث: اسم الممدوح، وكالمغيث؛ أي أَنا كالمغيث، والليث: الأسد، والشرى: موضع تكثر في الأسود، وعجل: قبيلة الممدوح. يقول: مرت بنا بين تربيها فقلت لها: أنت من الظباء وترباك من العرب، فكيف اتفقت هذه المجانسة بينك وبينهما؟ فضحكت ثم قالت: لا تعجب من ذلك فإني كالمغيث: تراه من الأسود، وهو مع ذلك من عجل، وكذلك أنا: تراني من الظباء وأنا عربية، وفي هذين البيتين من البديع ما يسمونه حسن التخلص، وهو الخروج مما ابتدئ به الكلام من نسيب أو غيره إلى المقصود مع رعاية الملاءمة بينهما.
(٢٦٨) الترب: المساوي لغيره في العمر، ويقال اللدة، والشادن: من الظباء الذي قوي وترعرع واستغنى عن أمه؛ يريد به المحبوبة، واستضحك: بمعنى ضحك، والمغيث: اسم الممدوح، وكالمغيث؛ أي أَنا كالمغيث، والليث: الأسد، والشرى: موضع تكثر في الأسود، وعجل: قبيلة الممدوح. يقول: مرت بنا بين تربيها فقلت لها: أنت من الظباء وترباك من العرب، فكيف اتفقت هذه المجانسة بينك وبينهما؟ فضحكت ثم قالت: لا تعجب من ذلك فإني كالمغيث: تراه من الأسود، وهو مع ذلك من عجل، وكذلك أنا: تراني من الظباء وأنا عربية، وفي هذين البيتين من البديع ما يسمونه حسن التخلص، وهو الخروج مما ابتدئ به الكلام من نسيب أو غيره إلى المقصود مع رعاية الملاءمة بينهما.
(٢٦٩) أي جارت هذه المحبوبة بذكر رجل هذه أوصافه، وقيل جاءت هذه القبيلة التي هي عجل بمن هذه أوصافه.
(٢٧٠) يقول: إن خاطره لتوقده لو كان في زمن (الزمن ذو الزمانة؛ أي العاهة، وهو هنا في معنى المقعد) لمشى، أو في جاهل لصحا من جهله وصار عالمًا، أو في أخرس لقدر على النطق.
(٢٧١) يقول في الشطر الأول: إذا ظهر للناس حجبت هيبته عيونهم عن النظر إليه لشدة هيبته، وهذا كقول الفرزدق:وقوله أيضًا:(خضع: جمع خضوع أي خاضع، ونواكس جمع شاذ ويروى منكسي: نواكسي أي مطأطئي رءوسهم منكسي أبصارهم إجلالًا له وهيبة وللنحويين في نواكس كلام طريف فانظره.) ويقول أبو نواس:ويقول في الشطر الثاني: إذا احتجب وراء الستور ظهر نور وجهه من ورائها فلم تستطع حجبه، وهذا كقول القائل:وقال ابن جني: هذا يحتمل تأويلين؛ أحدهما: أن حجابه قريب لما فيه من التواضع فليس يقصر أحد أراده دونه وإن كان محتجبًا، والآخر: أنه وإن احتجب فهو كلا محتجب؛ لشدة يقظته ومراعاته الأمور، وعبارة الخطيب: الذي أراده المتنبي أن حسنه وبهاءه لا يحجبه شيء، والبيت الذي يليه يشهد له.
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ
فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
وَإِذَا الرِّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيْتَهُمْ
خُضُعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسَ الْأَبْصَارِ
إِنَّ الْعُيُونَ حُجِبْنَ عَنْكَ لِهَيْبَةٍ
فَإِذَا بَدَوْتَ لَهُنَّ نُكِّسَ نَاظِرُ
أَصْبَحْتَ تَأْمُرُ بِالْحِجَابِ لِخَلْوَةٍ
هَيْهَاتَ لَسْتَ عَلَى الْحِجَابِ بِقَادِرِ
(٢٧٢) الحالك: الشديد السواد، والمخشلب: خرز أبيض يشبه الدار، والعرب تسميه الخضض؛ أما المخشلب فهي كلمة نبطية. يقول: إن نور وجهه يغلب نور الشمس حتى ترى إذا قابلها كأنها سوداء، وأن لفظه أحسن من الدر حتى يرى الدر إذا نطق كأنه خرز.
(٢٧٣) هبته: مضاؤه، والغرار: الحد، والتأمور: دم القلب. قال أوس بن حجر:«أي مهجة نفسه وكانوا قتلوه.»
يقول المتنبي: إن مضاء عزمه يصير السيف رطب الحد من دم الأعداء.
أُنْبِئْتُ أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَوْلَجُوا
أَبْيَاتَهُمْ تَأْمُورَ نَفْسَ الْمُنْذِرِ
يقول المتنبي: إن مضاء عزمه يصير السيف رطب الحد من دم الأعداء.
(٢٧٤) الرهج: الغبار، وأرهج الغبار: أثاره، يقول: إذا لقي عدوه في غبار الحرب قصر عمره حتى يكون أقصر من عمر المال عنده إذا أخذ في العطاء.
وقال ابن القطاع: يريد أن عمر العدو حين يلاقيه قريب، كما أن عمر المال عنده قريب حين يدخل إليه فلا يكاد حتى يهبه، وليس يريد أن عمر العدو أقل من عمر المال، وإنما يريد المساواة والمقارنة وأنهما لا يبقيان، وقوله إذ وهبا؛ أي إذا أراد أن يهب.
وقال ابن القطاع: يريد أن عمر العدو حين يلاقيه قريب، كما أن عمر المال عنده قريب حين يدخل إليه فلا يكاد حتى يهبه، وليس يريد أن عمر العدو أقل من عمر المال، وإنما يريد المساواة والمقارنة وأنهما لا يبقيان، وقوله إذ وهبا؛ أي إذا أراد أن يهب.
(٢٧٥) تبلوه: أراد أن تبلوه، فحذف أن وبقي عملها. قال العكبري: تبلوه: انتصب بإضمار أن، وهو على مذهبنا، فإن أهل الكوفة نصبوا بها مقدرة، وأبى ذلك البصريون، وحجتنا ما قرأ به عبد الله بن مسعود: «وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله» فأعمل أن مقدرة، وحجتنا أيضًا قول عامر بن الطفيل:فنصب أفعله بأن المقدرة، والنشب: المال، يقول: احذره ولا تحم حوله بالعداء، فإن أردت اختباره فكن عدوه أو مالًا في يده حتى ترى ما يحل بك من الإبادة والإفناء، وفي معنى هذا البيت قول مسلم بن الوليد:وما أحلى قول أبي نواس:
وَنَهْنَهت نَفْسِي بَعْدَمَا كِدْتُ أَفْعَلَهُ
تَظَلَّمَ الْمَالُ وَالْأَعْدَاءُ مِنْ يَدِهِ
لَا زَالَ لِلْمَالِ وَالْأَعْدَاءِ ظَلَّامَا
لَيْتَ مَنْ كَانَ عَدُوِّي
كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ مَالَا
(٢٧٦) حالت: تغيرت، وجعل المذاقة مما يقطر اتساعًا، يقول: هو عذب الأخلاق فإذا غضب تغيرت فآضت مرة فلو أمكن أن يمزج الماء بها لم يطق أحد شربه؛ يعني أن فيه حلاوة لأوليائه ومرارة لأعدائه، وفي الماء يروى في البحر قال العكبري: وأراد بالبحر ها هنا العذب، قال الله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يريد الملح والعذب، وأهل مصر والصعيد كلهم يسمون النيل: البحر، هذا وفي البيت تصريع، وهو مما يحسن استعماله للخروج من قصة إلى قصة كما أسلفنا.
(٢٧٧) الغبطة والحسد: كلاهما بمعنى التمني، بيد أن الغبطة أن تتمنى مثل حال المغبوط من غير أن تريد زوالها ولا أن تتحول عنه، والحسد أن تتمنى مثل نعمته على أن تتحول عنه؛ فالغبطة أخف، تقول منه غبطته بما نال أغبطه غبطًا وغبطة فاغتبط هو كقولك منعته فامتنع، وحبسته فاحتبس، قال حريث بن جبلة العذري:وغبطت الكبش أغبطه غبطًا: إذا جسست أليته لتنظر أبه طرق أم لا (الطرق: الشحم أو السمن) وغبط الشاة والناقة: جسهما لينظر سمنهما من هزالهما. قال رجل من بني عمرو بن عامر يهجو قومًا من سليم:(غلاق: كشداد رجل أبو حي.)
وقد سئل سيدنا رسول الله ﷺ: هل يضر الغبط؟ قال: «لا، إلا كما يضر العضاة الخبط» أراد صلوات الله عليه أن الغبط لا يضر ضرر الحسد، وأن ما يلحق الغابط من الضرر الراجع إلى نقصان الثواب دون الإحباط بقدر ما يلحق العضاه من خبط ورقها الذي هو دون قطعها واستئصالها، ولأنه يعود بعد الخبط ورقها، فهو وإن كان فيه طرف من الحسد فهو دونه في الإثم، وأصل الحسد: القشر، وأصل الغبط الجس، والشجر إذا قشر عنها لحاؤها يبست، وإذا خبط ورقها استخلف دون يبس الأصل، وضمير منها: للأرض، وضمير به: لحيث حل الذي يقع مفعولًا به لتغبط، وضمير منها الثانية: للخيل، وأيها: مفعول تحسد، يقول: إن الأرض يغبط بعضها البعض الذي يحل فيه، والخيل يحسد بعضها البعض الذي يركبه. قال ابن جني: وجعل الغبطة للأرض؛ لأنها وإن كثرت بقاعها فهي كالمكان الواحد لاتصال بعضها ببعض، والخيل ليست كذلك؛ لأنها متفرقة فاستعمل لها الحسد، والبيت مأخوذ من قول أبي تمام:
وَبَيْنَمَا الْمَرْءُ فِي الْأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ
إِذَا هُوَ الرَّمْسُ تَعْفُوهُ الْأَعَاصِيرُ
إِذَا تَجَلَّيْتَ غَلَّاقًا لِتَعْرِفَهَا
لَاحَتْ مِنَ اللُّؤْمِ فِي أَعْنَاقِهَا الْكُتُبُ
إِنِّي وَأَتْيي ابْنَ غَلَّاقٍ لِيَقْرِيَنِي
كَغَابِطِ الْكَلْبِ يَبْغِي الطِّرْقَ فِي الذَّنَبِ
وقد سئل سيدنا رسول الله ﷺ: هل يضر الغبط؟ قال: «لا، إلا كما يضر العضاة الخبط» أراد صلوات الله عليه أن الغبط لا يضر ضرر الحسد، وأن ما يلحق الغابط من الضرر الراجع إلى نقصان الثواب دون الإحباط بقدر ما يلحق العضاه من خبط ورقها الذي هو دون قطعها واستئصالها، ولأنه يعود بعد الخبط ورقها، فهو وإن كان فيه طرف من الحسد فهو دونه في الإثم، وأصل الحسد: القشر، وأصل الغبط الجس، والشجر إذا قشر عنها لحاؤها يبست، وإذا خبط ورقها استخلف دون يبس الأصل، وضمير منها: للأرض، وضمير به: لحيث حل الذي يقع مفعولًا به لتغبط، وضمير منها الثانية: للخيل، وأيها: مفعول تحسد، يقول: إن الأرض يغبط بعضها البعض الذي يحل فيه، والخيل يحسد بعضها البعض الذي يركبه. قال ابن جني: وجعل الغبطة للأرض؛ لأنها وإن كثرت بقاعها فهي كالمكان الواحد لاتصال بعضها ببعض، والخيل ليست كذلك؛ لأنها متفرقة فاستعمل لها الحسد، والبيت مأخوذ من قول أبي تمام:
مَضَى طَاهِرَ الْأَثْوَابِ لَمْ تَبْقَ بُقْعَة
غَدَاةَ ثَوَى إِلَّا اشْتَهَتْ أَنَّها قَبْرُ
(٢٧٨) الجحفل: الجيش العظيم، واللجب: المختلط الأصوات، يقول: إنه جواد شجاع لا يستطيع أن يرد سائله، ولكنه يرد وحده الجيش العظيم.
(٢٧٩) قوله من قبل يصطحبا: أراد من قبل أن يصطحبا، فحذف أن وأبقى عملها، يقول: إذا التقى الديناران لديه تفرقا قبل اصطحابهما، فهما يلتقيان مجتازين لا مصطحبين، وقال الواحدي: يجوز نصب الدينار وصاحبه، ويكون معناه كلما لقي الممدوح الدينار مصاحبًا له، وما أجمل ما يقول النضر بن جؤية بن النضر في هذا المعنى:
قَالَتْ طَرِيفَةُ مَا تُبْقِي دَرَاهِمُنَا
وَمَا بِنَا سَرَفٌ فِيهَا وَلَا خُرُقُ
إِنَّا إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا دَرَاهِمُنَا
ظَلَّتْ إِلَى طُرُقِ الْمَعْرُوفِ تَسْتَبِقُ
لا يألفُ الدِّرْهَمُ المَضْرُوبُ صُرَّتَنَا
لكِن يمُرُّ عَليها وَهْوَ مُنطلِقُ
حَتَّى يَصِيرَ إِلَى نَذْلٍ يُخَلِّدُهُ
يَكَادُ مِنْ صَرِّهِ إِيَّاهُ يَنْمَزِقُ
(٢٨٠) المجتدي: السائل، ونعيب الغراب: صياحه، والبين: الفراق. يقول: هذا المال كأن غراب البين يرقبه، فكلما جاء مجتد صاح فيه فتفرق شمله، وعبارة الواحدي: إن ماله يرقبه غراب البين، فإذا جاء السائل فرق الممدوح ماله، فكأن غراب البين نعب في مال الممدوح بالتفريق، وما ذكر من رقبة الغراب ونعيبه بيان ومثال لتفريقه المال عند مجيء السائل، والأصل في هذا أن العرب تقول: غراب البين إذا صاح في ديار قوم تفرقوا، أما ما قاله ابن جني من أن المعنى: كما أن غراب البين لا يفتر عن الصياح، كذلك هذا لا يفتر عن العطاء: فهو بعيد، ومن الذي قال إن الغراب لا يفتر عن الصياح؟ هذا، وقالوا: إنما حسنت الإضافة في غراب البين؛ لأنه اسم مشترك يقع على أشياء، فمنها غراب الفأس؛ أي حدها، قال الشماخ يصف رجلًا قطع نبعة:أي أمال على النبعة فأسًا ذات حد، غرابها؛ أي حدها، مشارز؛ أي معاد أو سيئ الخلق، والمشارزة هي المشارسة. ومنها الغراب: قذال الرأس، يقال شاب غرابه؛ أي شعر قذاله، والغرابان من الفرس والبعير حرفا الوركين الأيسر والأيمن اللذان فوق الذنب حيث التقى رأسا الورك اليمنى واليسرى، قال الراجز:
فَأَنْحَى عَلَيْهَا ذَاتَ حَدٍّ غُرَابُهَا
عَدُوٌّ لِأَوْسَاطِ الْعِضَاهِ مُشَارِزُ
يَا عَجَبًا لِلْعَجَبِ الْعُجَابِ
خَمْسَةُ غِرْبَانٍ عَلَى غُرَابِ
(٢٨١) السمر: المسامرة، وهو حديث الليل، وأصله أنهم كانوا يسمرون في ظل القمر، وأصل السمر: ظل القمر، والسمرة مأخوذة من هذا، وسمر يسمر سمرًا وسمورًا لم ينم: وهو سامر، وهم السمار، والسامر أيضًا السمار، وهم القوم يسمرون. قال الأزهري: وقد جاءت حروف على لفظ فاعل وهي جمع، فمنها الحامل والسامر والباقر والحاضر، والحامل للإبل ويكون فيها الذكور والإناث، والسامر: الجماعة من الحي يسمرون ليلًا، والحاضر: الحي النزول على الماء، والباقر: البقر فيها الفحول والإناث، قالوا: والسامر أيضًا: الموضع الذي يجتمعون للسمر فيه، وأنشدوا:ابنا سمير الليل والنهار؛ لأنه يسمر فيهما. يقول: هو بحر له عجائب في باب الفضل والشجاعة لا تحاكيها عجائب البحار ولا ما يتحدث به السمار، إذ هي بالقياس إليها كالشيء المألوف؛ لغرابة ما يبدو منه ويتحدث عنه، وعبارة ابني جني: تشاغل الناس بالتعجب من فضائل هذا الرجل عن عجائب الأسمار والبحار.
وَسَامِرٌ طَالَ فِيهِ اللَّهْوُ وَالسَّمَرُ
(٢٨٢) محاولها؛ أي طالبها، وأصله طلب الشيء بالحيلة، يقول: لا يقنع الممدوح أن ينال المنزلة العظيمة التي يشكو طالبها قصوره عنها وتعبه في تحصيلها، إذ هو دائمًا يطمح إلى ما يعجز عنه الطالبون.
(٢٨٣) اللواء: الراية، وبنو عجل: قبيلة الممدوح، يقول: حركوا اللواء باسمه — أي جعلوه سيدهم وقائدهم — فإذا حركوا رايتهم حركوها باسمه، فصار سيدهم، وصاروا هم به سادة الناس، فهو رأس بني عجل فصاروا بذلك سادة الناس، وصار الناس أذنابًا لهم وتبعًا.
(٢٨٤) نصب التاركين على المدح بإضمار أعني أو أمدح. يقول: إنهم — لبعد همتهم — يتركون ما هان من الأمور وسهل وجوده، ويرومون الصعب الشاق منها، وفي هذا يقول الطهوي:(الهدون: الدعة والسكون.)
وَلَا يَرْعَوْنَ أَكْنَافَ الْهُوَيْنَى
إِذَا حَلُّوا وَلَا رَوْضَ الْهُدُونِ
(٢٨٥) البيض: السيوف، والهام: الرءوس، والكماة: الأبطال المدججون في السلاح، والعذب: جمع عذبة وهي الريش المعلق في طرف الرمح. يقول: إن سيوفهم تحول دون خيلهم أن يصل إليها أحد بطعن أو ضرب؛ إما لمنازلتهم دونها، أو لحذقهم بالضرب، فتكون لها بمنزلة البراقع، والمعنى أنهم يحمونها بالسيوف لا بالبراقع والتجافيف، وعبارة أبي الفضل العروضي: أن سيوفهم مكان البراقع لخيلهم فلا يصل العدو إلى فرسانهم، وقوله متخذي هام الكماة: معناه أنهم يأخذون رءوس الأبطال بأطراف رماحهم، فتكون مع شعورها بمنزلة العذب التي تعلق بالرماح، وقال جرير في هذا المعنى:وقال مسلم بن الوليد:وقال أبو تمام:
كَأَنَّ رُءُوسَ الْقَوْمِ فَوْقَ رِمَاحِنَا
غَدَاةَ الْوَغَى تِيجَانُ كِسْرَى وَقَيْصَرَا
يَكْسُو السُّيُوفَ نُفُوسَ النَّاكِثِينَ بِهِ
وَيَجْعَلُ الْهَامَ تِيجَانَ الْقَنَا الذُّبُلِ
أَبْدَلْتَ أَرْؤُسَهُمْ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ مِنْ
قَنَا الظُّهُورِ قَنَا الْخطِّيِّ مُدَّعِمَا
مِنْ كُلِّ ذِي لِمَّةٍ غَطَّتْ ضَفَائِرُهَا
صَدْرَ الْقَنَاةِ فَقَدْ كَادَتْ تُرَى عَلَمَا
(٢٨٦) الخرقاء: الحمقاء، مؤنث الأخرق، يقول: لو لاقتهم المنية يوم الوغى للبطت بالأرض خوفًا وفزعًا لا يتجه لها رأي في السلامة فهي تتهم الإقدام وتتهم الهرب خشية الإدراك؛ أي تقدر أنها إن هربت أدركت. قال أبو تمام:وقال أيضًا:
مِنْ كُلِّ أَرْوَعَ تَرْتَاعُ الْمنُونُ لَهُ
إِذَا تَجَرَّدَ لَا نِكْسٌ وَلَا حَذِرُ
شُوسٌ إِذَا خَفَقَتْ عُقَابُ لِوَائِهِمُ
ظَلَّتْ قُلُوبُ الْمَوْتِ مِنْهَا تَخْفِقُ
(٢٨٧) الشهب: الكواكب. يقول: إن لهم مراتب عالية علت في السماء فصارت أعلى من الكواكب؛ لأن الفكر الذي يتبعها جاز الكواكب ولم يلحقها.
(٢٨٨) نزفت: استنفدت، وآل: عاد ورجع، ونضب: جف. قال الواحدي: جعل اقتضاء المحامد أن تنظم بالشعر نزفًا، وجعل الشعر — لكونه مقتضى — منزوفًا. يقول: لم تمتلئ هذه المحامد من شعري؛ أي لم تبلغ الغاية التي تستحقها من شعري، ولا شعري فَنِيَ، فأنا أبدًا أمدحهم، وبيان ذلك أن لهم محامد استخرجت شعري؛ لينظم تلك المحامد كلها فلم تنحصر بالشعر، ولم يَفْنَ الشعر، يريد كثرة محامدهم وكثرة مدائحه لهم يعني أنه سيعود إلى استيفاء مديحهم، وجعل الشعر كالماء ينزف، واستغراق محامدهم في الشعر كملئها بالماء، ولما جعل الشعر كالماء جعل فناءه نضوبًا.
(٢٨٩) يقول: لك مكارم سبقت بها العالمين فليس في مكنة أحد إدراكها ومن يستطيع إدراك أمر فائت؟
(٢٩٠) اختلفت: ترددت وجاءت مرة بعد أخرى، والمراد بالركبان: القصاد الذين صمدوا إلى الممدوح فآبوا بالهبات والعطايا، ولا ألوي: لا أعرج، يقول: لما أقمت بإنطاكية جاءتني ركبان العفاة — الذين قصدوا إليك وأنا في حلب — فما عتمت أن سرت نحوك لا أعرج في سيري ولا أقف، حتى وصلت إليك محمولًا على راحلتين من فقري الذي يحفزني إلى بابك طلبًا لجدواك وأدبي الذي تسببت به إليك.
(٢٩١) اختلفت: ترددت وجاءت مرة بعد أخرى، والمراد بالركبان: القصاد الذين صمدوا إلى الممدوح فآبوا بالهبات والعطايا، ولا ألوي: لا أعرج، يقول: لما أقمت بإنطاكية جاءتني ركبان العفاة — الذين قصدوا إليك وأنا في حلب — فما عتمت أن سرت نحوك لا أعرج في سيري ولا أقف، حتى وصلت إليك محمولًا على راحلتين من فقري الذي يحفزني إلى بابك طلبًا لجدواك وأدبي الذي تسببت به إليك.
(٢٩٢) شرقت: غصصت، وضمير ذاقها: للزمن، وقوله ما عاش؛ أي ما بقي وامتد، والانتحاب: رفع الصوت وتردده بالبكاء. يقول: أذاقني الدهر من الفقر والغربة شيئًا لو ذاقه هو لبكى وانتحب مدة حياته، ولم يستطع عليه صبرًا؛ لأنه الغاية في الشدة، فكيف أصبر أنا عليه؟
(٢٩٣) عمرت: عشت، والسمهري: الرمح، والمشرفي: السيف، كنى بهذه القرابات عن ملازمة هذه المذكورات. يقول: إن عشت وتنفس بي العمر لازمت الحرب حتى أدرك طلبتي. هذا، ويقال عمِر الرجل بكسر الميم يعمر عمرًا وعمارة وعمرًا، وعمَر — بالفتح — يعمر، ويعمر؛ أي عاش وبقي زمانًا طويلًا، ومنه قولهم: أطال الله عمرك وعمرك، وهما وإن كانا مصدرين بمعنى، إلا أنه استعمل في القسم أحدهما وهو المفتوح.
(٢٩٤) الأشعث: المغبر من طول السفر ولقاء الحروب، والقح: الخالص؛ أي العربي الخالص النسب، وقح: نعت لأشعث، والمرح: النشاط، يقول: للازمت الحرب بكل رجل قد طال تمرسه بالحروب والأسفار حتى تراه يرمي بنفسه في التهلكة كأن القتل حاجة له يبتغيها ويتهالك عليها، وإذا هو سمع صهيل الخيل استخفه ذلك حتى يكاد يطرحه عن السرج لما يجد من النشاط والطرب، وروى ابن جني بدل صهيل الخيل صهيل الجرد — جمع أجرد وهو الفرس القصير الشعر — وذلك مما يحمد في الخيل، ويروى بدل مرحا بالغزو: مرحا بالعز، ومن جيد ما قيل في معنى البيت الأول قول أبي تمام:وقول البحتري:
مُسْتَرْسِلِينَ إِلَى الْحُتُوفِ كَأَنَّمَا
بَيْنَ الْحُتُوفِ وَبَيْنَهُمْ أَرْحَامُ
مُتَسَرِّعِينَ إِلَى الْحُتُوفِ كَأَنَّهَا
وَفْرٌ بِأَرْضِ عَدُوِّهِمْ يُتَنَهَّبُ
(٢٩٥) الأشعث: المغبر من طول السفر ولقاء الحروب، والقح: الخالص؛ أي العربي الخالص النسب، وقح: نعت لأشعث، والمرح: النشاط، يقول: للازمت الحرب بكل رجل قد طال تمرسه بالحروب والأسفار حتى تراه يرمي بنفسه في التهلكة كأن القتل حاجة له يبتغيها ويتهالك عليها، وإذا هو سمع صهيل الخيل استخفه ذلك حتى يكاد يطرحه عن السرج لما يجد من النشاط والطرب، وروى ابن جني بدل صهيل الخيل صهيل الجرد — جمع أجرد وهو الفرس القصير الشعر — وذلك مما يحمد في الخيل، ويروى بدل مرحا بالغزو: مرحا بالعز، ومن جيد ما قيل في معنى البيت الأول قول أبي تمام:وقول البحتري:
مُسْتَرْسِلِينَ إِلَى الْحُتُوفِ كَأَنَّمَا
بَيْنَ الْحُتُوفِ وَبَيْنَهُمْ أَرْحَامُ
مُتَسَرِّعِينَ إِلَى الْحُتُوفِ كَأَنَّهَا
وَفْرٌ بِأَرْضِ عَدُوِّهِمْ يُتَنَهَّبُ
(٢٩٦) يقول: الموت أعذر لي من أن أعيش ذليلًا، فإذا قتلت في طلب المعالي قام الموت بعذري، والصبر أجمل؛ لأن الجزع عادة اللئام، والبر أوسع لي من بلد يضيق بي رزقه فأنا أسافر وأضطرب في مناكب الأرض، والدنيا لمن غلب وزاحم لا لمن لزم عقر داره، قال العكبري: وهذه الأبيات التي أتى بها في آخر القصيدة خارجة عما هو فيه؛ لأنه يمدح رجلًا، ويذكر أنه قد قصده، وأن الزمان قد أذاقه بلوى وشدة، وقد جاء يستجدي منه ثم يذكر الشجاعة منه وطلب الملوك وأخذ البلاد … وأين أبو الطيب والملوك؟ رحم الله امرأ عرف قدره … ولقد أحسن ابن دريد فيما قال:وقد غاب عن العكبري — رحمه الله — خلائق المتنبي، وأنه لا يمدح الناس إلا ليمدح نفسه، وينوه بما تنطوي عليه من المطامع والآمال الكبار والنزاع إلى الطعن والنزال.
مَنْ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ انْتِهَاءِ قَدْرِهِ
تَقَاصَرَتْ عَنْهُ فَسِيحَاتُ الْخُطَى
(٢٩٧) قيل: إنه لم يجزه على هذه القصيدة إلا دينارًا واحدًا، ولذلك سميت بالدينارية.
(٢٩٨) الباء للتفدية، والشموس: إمَّا مرفوعة على أنها مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: الشموس مفديات بأبي، وإما منصوبة على أنها مفعول فعل محذوف والتقدير: أفدي الشموس بأبي، والجانحات: المائلات، والجلابب: جمع جلباب، وهو ما يلتحف به من الثياب، وأصله جلابيب: قال تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ فحذف الياء ضرورة، كنى بالشموس عن النساء، وبغروبهن عن بعدهن، وعبارة الواحدي: لما سماهن شموسًا كنى عن بعدهن بالغروب؛ لأن بعد الشموس عن العيون لا يكون إلا بالغروب، وقد بيَّن في آخر البيت أن الشموس: النِّساء الحسان؛ إذ قال: اللابسات … إلخ. وقال ابن جني: غبن عنك في الخدور.
(٢٩٩) المنهبات: اسم فاعل، ووجناتهن: مفعول أول، وقلوبنا: مفعول ثانٍ، وعقولنا: عطف عليه، والناهبات: صفة لوجناتهن، ولك أن ترفع وجناتهن على أنها فاعل المنهبات؛ أي اللاتي أنهبت وجناتهن قلوبنا، فيكون قد اقتصر على مفعول واحد، ويقال: أنهبته الشيء إذا جعلته نهبًا له. يقول: اللواتي جعلن قلوبنا وعقولنا نهبًا لوجناتهن يسبينها بحسنهن، ثم وصف الوجنات بأنها تنهب الناهب؛ أي الرجل الشجاع المغوار الذي ينهب الناس بعد أن أبلى البلاء الحسن في الحرب، وهذا من قول أبي تمام:
سَلَبْنَ غِطَاءَ الْحُسْنِ عَنْ حُرِّ أَوْجُهٍ
تَظَلُّ لِلُبِّ السَّالِبِيهَا سَوَالِبَا
(٣٠٠) الناعمات؛ أي اللينات المفاصل، والقاتلات؛ أي بهجرهن، والمحييات: بوصلهن، والمبديات؛ أي المظهرات من الدلال عجائب، والدلال: جرأة المرأة على الرجل في تكسر وتغنج.
(٣٠١) الترائب: موضع القلادة من الصدر. يقول: حاولن أن يقلن لي نفديك بأنفسنا فوضعن أيديهن على صدورهن إشارة إلى ذلك خوف الرقيب، وقال ابن جني: أشرن إلي من بعيد ولم يجهرن بالسلام والتحية خوف الرقباء والوشاة، جعل ابن جني هذه الإشارة تحية وتسليمًا، وقال الواحدي: طلبن أن يقلن نفديك بأنفسنا وخفن الرقيب، فنقلن التفدية من القول إلى الإشارة؛ أي أنفسنا تفديك، وهذا أولى من قول ابن جني لذكر التفدية في البيت، ولم يقل حاولن تسليمي؛ لأن الإشارة بالسلام لا تكون بوضع اليد على الصدر، وقال ابن فورجه: وضع اليد على الصدر لا يكون إشارة بالسلام، وإنما أراد وضع أيديهن فوق ترائبهن تسكينا للقلوب من الوجيب. قال الواحدي: وليس كما قال — ابن فورجه — وصدر البيت ينقض ما قاله. هذا، وبديع قول بعضهم ينظر إلى هذا المعنى:
أَضْحَى يُجَانِبُنِي مُجَانَبَة الْعِدَا
وَيَبِيتُ وَهْوَ إِلَى الصَّبَاحِ نَدِيمُ
وَيَمُرُّ بِي خَوْفَ الْوُشَاةِ وَلَفْظِهِ
شَتْمٌ وَحَشْوُ لِحَاظِهِ تَسْلِيمُ
(٣٠٢) أراد بالبرد: أسنانهن التي تشبه البرد في نقائها، وقوله خشيت أذيبه: أي أَنْ أذيبه، يقول: إني كنت أخاف على ثغورهن أن تذوب من حرارة أنفاسي، فلما رحلن ذبت أنا من شوقي إليهن، ومن هذا الباب قول الصنوبري:وقول بعضهم:
وَضَاحِكٍ عَنْ بَرَدٍ مُشْرِقٍ
أَبَاحَنِيهِ دُونَ جُلَّاسِي
فَكُلَّمَا قَبَّلْتُهُ خِفْتُ أَنْ
يَذُوبَ مِنْ نِيرَانِ أَنْفَاسِي
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يُذِيبَ مَفَاصِلِي
مَنْ لَوْ جَرَى نَفَسِي عَلَيْهِ لَذَابَا
(٣٠٣) المتحملون: المرتحلون، والمراد بالغزالة إما الشمس وإما الحيوان المعروف، والكاعب: التي بدا ثديها للنهود. يقول: قبلت غزالة في صورة كاعب من النساء.
(٣٠٤) الخطوب: الأمور الثقال، وتخلصًا: مفعول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق