مقايضة الحياة الآخرة الباقية بالحياة الدنيا الفانية
من أعظم أخطاء اللادينيين اعتقادهم أن الحياة الدنيا دار خلود وبقاء, غير مدركين أنهم يخضعون في هذه الحياة لامتحانٍ انتقالي, لهذا فشهوات الدنيا الفاتنة تضلهم معتقدين أن ما كسبوه إنما هو نتيجة حتمية لما بذلوه من جهد, ولذلك يُداخلهم إحساسُ الاكتفاء بذواتهم. وينسى الناس في المجتمعات الكافرة الحياة الآخرة فينشغلون في محاولة الحصول على ملذات يحسبونها ذات قيمة، بينما يخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) ) سورة آل عمران: 14-15
فللناس كما أوضحت الآية رغباتٌ كثيرةٌ, ويسعون لنيل ملذاتٍ وأغراضٍ لا تعود عليهم بكبير فائدةٍ, لأن حياتهم الحقيقية تنتظرهم هناك في الدار الآخرة حيث البقاء والخلود. والآيات التالية توضح هذا المفهوم، يقول تعالى: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)) سورة الكهف: 14-15
وكما بين النص القرآني, فكل ما يوجد في الدنيا من أموال وثروات وزوجات ومنازل وجاه ووظيفة وغير ذلك, ما هو إلا لعبٌ عابر مصيره الزوال مع موت الإنسان وحلول أجله المحتوم.
ولكنّ كثيرا من الناس لا يدركون أن هذه الأعراض مصيرها الزوال, فينغمسون في تحصيل المزيد من الملذات المادية, والمحرمات, ويسعون في الحصول على السمعة والشهرة بين الناس, فهم مشدودون عاطفيا لهذه المعاني, متناسين تماماً كل ما يشدهم إلى الآخرة دار الخلود والبقاء. ولهذا, فهم لا يعدون للآخرة عدتها معتقدين أن الموت يعني النهاية والفناء.
وكما قال العلامة بديع الزمان, فالموت لا يعني مجرد الانفصال عن هذه الدنيا أو حتى الفناء, بل هو نهاية ابتلاءات الحياة الدنيا, وهو المكان الذي ينال فيه الناس جزاء ما عملوا في الحياة الدنيا:
"فلم يعد الموت مخيفا كما يتجلى ظاهريا, وكما أثبتنا بالأنوار التي أشرقت على رسائل النور لجمهور المؤمنين بيقين لا يعتريه ريب ولا شك في أن الـموت للـمؤمن خلاص وانعتاق من كلفة وظيفة الـحياة ومشقتها.. وهو تسريح من العبودية التي هي تعليم وتدريب في ميدان ابتلاء الدنيا.. وهو باب وصال لالتقاء الأحبة والـخلاّن الراحلين إلى العالـم الآخر.. وهو وسيلة للدخول في رحاب الوطن الحقيقي والـمقام الأبدي للسعادة الـخالدة.. وهو دعوة للانتقال من زنزانة الدنيا إلى بساتين الـجنة وحدائقها.. وهو اللحظة الواجبة لتسلم الجزاء على الـخدمة الـتي تم أداؤها، ذلك الجزاء الذي يغدق بسخاء من خزائن فضل الـخالق الرحيم" 3.
فما دامت هذه هي حقيقة الـموت – على الوجه الصحيح – فلا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه شيء مـخيف، بل يـجب اعتباره تباشير رحـمة وسعادة.
ومن الخطأ الفادح أن نظن أن هذه الدنيا دار بقائنا إذا قارناها بخلود الآخرة ودوامها, ويتبين بالمقارنة أن حياتنا الدنيا لا تدوم سوى لحظات قصيرة. يقول النورسي رحمه الله:
"وكذا يخبر بصدق عن مستقبل، ليس مستقبل الدنيا بالنسبة إليه إلا كقطرة سراب بلا طائل بالنسبة إلى بحر بلا ساحل. وكذا يبشّر عن شهود بسعادة، ليست سعادة الدنيا بالنسبة إليها إلاّ كبرقٍ زائلٍ بالنسبة إلى شمس سرمدية". 4
والمسلمون, بعيداً عن هؤلاء الذين تجردوا من أخلاقيات القرآن, عندما تطالعهم فكرة الموت لا ينفرون مذعورين, بل يستشرفونها بشوق عظيم آملين أن ينالوا كرامةً من بارئهم, جزاء ما قدموا من بر وخير في الحياة الدنيا. فقد عاشوا الحياة الدنيا وكلهم أملٌ وثقة بالله سبحانه أن يدخلهم الجنة حيث النعيم والمسرات التي لا ينضب معينها.
وترينا الآيات التالية صورة أولئك النفر الذين كان جل همهم منصبٌ على تحقيق ملذات الحياة الدنيا ومتاعها: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ) سورة البقرة: 175
وقال عنهم, في آية أخرى, أنهم قد ارتكبوا خطأً فادحا. والمثال التالي يدلل على مدى الخسارة الكبيرة التي تكبدوها.
والآن أمعن معي النظر في رجلين أوتيا نصيباً من المال لينفقَ كلٌ منهما كما يطيب له, فبعثرَ أحدهما ماله هباءً حتى أتى على آخره, بينما أنفقهُ الآخرُ محققاً منافع جمّة لنفسه وللإنسانية على حدٍ سواء, ولأحدنا أن يسأل: ما طبيعة شعور الأول إذا نُوقشَ عند الحساب, لن تكون سوى الحسرة البالغة ! .
لهذا, فكل ما نملكه من عقارات وممتلكات ومباني، وما نتمتع به من شهرة واحترام، أو جمال، وجميع النعم الأخرى التي منحت للإنسان في هذه الحياة الدنيا ما هي إلا أدوات لكي يعدّ نفسه للحياة الآخرة. وقد اغتنم المسلمون الأوائل هذه الوسائل بأقصى ما لديهم من جهدٍ لأنهم أدركوا هذه الحقيقة العظيمة.
أما الجاحدون، مثل هؤلاء الذين ينفقون أموالهم يمنة ويسرة دون أي تقدير أو تفكير تلبية لرغباتهم الدنيوية فهم يقضون مدة حياتهم القصيرة مستهينين بكل القيم، وبذلك فهم سوف يعانون غداً الخسران المبين في الآخرة التي هي دار الخلود.
ويصف القرآن الكريم لنا حالتهم هذه فيقول: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ) سورة الكهف: 103-105.
وهؤلاء الذين لم تغرهم الحياة الدنيا وتيقنوا أن الآخرة هي الباقية, أدركوا أن طيبات الدنيا زائلة لا محالة, فبذلوا جهدهم لينالوا طيبات الجنة ونعيمها, لهذا فقد ربحت تجارتهم مع الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ) سورة التوبة: 111
الله يبتلي بالخير والشر
يتم اختبار المؤمنين في حياتهم الدنيا, كما أسلفنا من قبل, وفق أشكال متنوعة من الابتلاءات أخبرنا القرآن الكريم أنها تتراوح بين معياري الخير والشر: ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) ) سورة الأنيباء: 34-35
فالناس عرضة لأن يُمتحنوا بشتى ألوان الابتلاءات, فعليهم, على سبيل المثال, عندما يتمتعون بفائض ثرواتهم أن يفعلوا ذلك متحلين بأخلاق دينهم الحنيف كي ينالوا رضى ربهم عز وجل, مخلصين له أعمالهم ونواياهم, مذعنين لأوامره متبعين إرشاده سبحانه. ولو فتنت ملذات الحياة الدنيا الزائلة الناسَ فانغمسوا فيها وخاضوا غمارها لأذهلتهم عن جوهر الحقيقة التي خلقوا من أجلها, ولكن مهما تكاثرت النعم بأيدي المؤمنين فسيبقون ممتنين شاكرين لله عز وجل مدى حياتهم.
وقد يمتحن الناس كذلك بالمرض والكوارث والضغوط التي يمارسها الكفار عليهم, ويمتحنون بالسيء من القول والسخرية, ولكن المسلمين يدركون أن هذه الإبتلاءات كلها جزءٌ من الامتحان, لذا يتمسكون بالصبر فلا يمسهم السوء ويكونون هم الفائزون. وقد عقد هؤلاء المؤمنون صفقة بيعٍ مع بارئهم عز وجل مقايضين الحياة الدنيا بخلود الآخرة, وهذا القرآن الكريم يقول: ( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) ) سورة التوبة: 88-89.
أوضحت لنا الآيات السابقة أن الحياة الدنيا تعتبر بمنظور المؤمنين ميدان جهادٍ في الله لا يفترون حتى ينالوا رضوانه سبحانه. ويذكرنا بديع الزمان رحمه الله تعالى أن الدنيا دار كدح وطاعـة يحياها الناس وهي مثقلة بالمكاره والشهوات، وأن جزاء الذين تحملوا مشقاتها ومصائبها بصبر جميل جزاء عظيم , فانظر ماذا يقول:
"إنّ دار الدنيا هذه ما هي إلاّ ميدان اختبار وابتلاء، وهي دار عمل ومـحل عبادة، وليست مـحل تـمتع وتلذّذ، وهي ليست مكانا للأجر ونيل الثواب. فما دامت الدنيا دار عمل ومحل عبادة، فالأمراض والـمصائب، ما لم تكن في الدّين، وبشرط الصبر عليها تكون متلائمة جدّا مع ذلك العمل، بل منسجمة تماماً مع تلك العبادة، حيث أنها تمدّ العمل بقوة وتشدّ من أزر العبادة، فلا يجوز التشكي منها، بل يـجب التحلي بالشكر لله تعالى، فتلك الأمراض والنوائب تحوّل كل ساعة من حياة المصاب عبادة يُنال الأجر عليها ".5
إنه من الأهمية بمكان أن نتدبر هذه الكلمات الرّشيدة. وكما بينا سابقا، فالناس ملزمون بطاعة الله والاستسلام لأمره والبقاء على علاقة قوية بخالقهم سبحانه مهما تغيرت الظروف وتلونت. ولعل الصبر على المكاره والمنغصات التي تحفل بها الحياة الدنيا هو إحدى أوجه هذه العلاقة المتينة مع الله سبحانه وتعالى. وقد يحمل الزمن لنا مكاره لم تكن في الحسبان, فتنتهي أو تدوم إلى ما شاء الله أن تدوم. فمثلاً, قد يفتقر غنيٌ , وقد يواجه إنسانٌ ناجحٌ فشلاً مفاجئاً, وقد يفقد آخر محبوبه, أو يصبح رهن المرض أو الإعاقة. وبغض النظر عن مفهوم الاختبار, فإن الله سبحانه وعد الذين يحسنون الصلة به ويبقون مقيمين على طاعته, وعدهم بنعيم لا نفاد له: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) ) سورة آل عمران: 185-186.
سر الابتـلاء
يخبرنا الله تعالى أن المؤمنين سيخضعون في حياتهم لاختباراتٍ كثيرةٍ, وستكون أنفسهم وأموالهم موضع اختبار, وقد ينصب لهم الكفار شراكاً كثيرةً, أو يتهمونهم باطلا وزورًا, وبمعنىً آخر, يواجهون مكاره جمةً في كل مراحل حياتهم, لكن المهم هو متابعة سلوكهم الإيماني انسجاما مع أخلاقيات القرآن الكريم في أوقات الشدائد, فيبقون لربهم ذاكرين, ولإنعامه شاكرين, مطمئنين أن كل ما يصيبهم سيكون عقباه الخير المحض.
ومن البديهي أن يتحلى المؤمن بهذه الأخلاق وهو في رحب العيش ورغده، عما لو حدث ذلك كله وقت الشدائد والكربات. وعدم مساومة المؤمنين على سلوكهم الأخلاقي المستقيم هو أنصع دليلٍ على قوة إيمانهم والثبات عليه. فالمسلمون الذين تجرعوا مرارة الصبر على الفقر والجوع, والخوف والخسارة المعنوية والمادية, ومكابدة المرض, وتهديد الكفار لهم, والافتراء عليهم, ونصب شراك الخديعة, سينالون أعظم الثواب جزاء تمسكهم بالفضائل الخلقية.
ويقدم لنا القرآن الكريم نماذج من الظلم والطغيان الذي عاناه الأنبياء عليهم السلام ومن كان معهم من المؤمنين. وقصة طغيان أحد الفراعنة على شعبه هي إحدى هذه النماذج القرآنية. ويعلمنا الله سبحانه أن ذلك كله إنما هو تمحيص منه لعباده المؤمنين: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)) سورة البقرة: 49.
أوضحت هذه الآية أن كل ما يضعه الكفرة من عوائق في طريق الخير ماهو إلا امتحان لأهل الإيمان. فثباتهم على الفضيلة وشجاعتهم, وسكينتهم عند تعرضهم للملمات والابتلاءات, ستضاعف ثوابهم وترفع درجاتهم في جنات الخلد. ويصف لنا القرآن الكريم حال المؤمنين وما سيعانونه, وصور ثباتهم على الحق فيقول: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157) ) سورة البقرة: 155-157.
إن الثقة بالله والاستسلام لأمره المذكورين في الآية السالفة لهي أروع مثال يحتذي به جميع المسلمين. ولكن الكافرين لا يفقهون معنى لهذه الثقة لأنهم يتصرفون وفق معاييرهم الفاسدة المنحرفة, وهم يظنون أن الطريق الوحيد لجمع الثروة هو انغماسهم في حمأة رذائلها, فلا يستطيعون مواجهة الشدائد فيفترسهم الخوف ثم ينبذبون إيمانهم والعياذ بالله تعالى.
أما المسلمون الذين فهموا سر الاختبارات في الحياة الدنيا, هم يعرفون أن أفضل ما يمكن عمله في مثل هذه الظروف هو الاحتساب والصبر. فهم يصطبغون بأخلاق القرآن ويبذلون ما بوسعهم لترسيخها في نفوس الآخرين. إذاً فكل المشكلات التي تعتريهم إنما تقدم لهم دليلاً إضافياً أنهم ماضون على صراط الله المستقيم.
وكثيراً ما يخبرنا ربنا عز وجل في القرآن الكريم عن السنن التي لا تبديل لها ولا تحويل على مدار التاريخ. وتعرض المؤمنين لألوانٍ من الشدائد والكرب بسبب شتى أصناف المظالم التي ينزلها بهم الكافرون, هو إحدى هذه السنن, دون أن ينجز الكفرة أياً من أغراضهم: وهذه واحدة من بين الابتلاءات التي نبه الله تعالى المؤمنين على إمكانية مواجهتها, وأنهم سيدخلون الجنة إذا صبروا في مواجهتها كما فعل أسلافهم من قبل.
الإذعان للقــدر
والقدر واحدٌ من أهم أسرار العقيدة الإسلامية, فالمسلمون كافة يعرفون أن الله سبحانه قد خلق كل شيء بقدره, وما يتحرك ساكنٌ إلا وفق مشيئتهِ سبحانه. والله – كما يخبرنا القرآن – هو بارئ الحياة الإنسانية بأشكالها المتنوعة, وما يقع في ملكهِ سبحانه إنما هو تحقيقٌ لهذه المشيئة. فليس لأحدٍ القدرة على الإخبار عن المستقبل لأن الناس مكبلين بأصفاد اللحظة, وليس بوسعهم التكلم إلا بمنظور لحظتهم الراهنة. ولأن المستقبل من مكنون عالم الغيب, فهم غير مدركين غالباً, وربما على المدى الطويل أهمية ما يواجهون من أحداث حياتهم أو حتى إيجابياتها. ولكن الله جلت قدرته خلق الزمان, ويرى الأشياء من خارج حدود الزمان. ويحسن بنا أن نعرف القدر بأنه علم ُ الله بالحوادث ماضيها ومستقبلها وما يمكن أن يتمخض عنها في لحظةٍ واحدة.(لمزيد الاطلاع حول هذا الموضوع ارجع إلى كتابي هارون يحيى: "لا محدودية الزمان" و "حقيقة القضاء والقدر".
وهكذا, فالله يعلم بداية الابتلاءات الإنسانية ونهايتها, وماضي الزمان ومستقبله ولحظته الراهنة. فكل شيء قد تم وأنجز بعلم الله سبحانه, بغض النظر عن ماضي الزمان ومستقبله. أما الإنسان فلا يعلم لضعف إمكاناته وقصورها من الأحداث إلا ما يمارسه ضمن إطار الزمن.
أما الكفار, فليس لهم من معرفة القدر أدنى نصيب لأنهم على جهلٍ مطبق بكنه حقيقته, في حين أن معرفة القدر هذه تجعل المسلمين يواجهون المكاره والابتلاءات بصبر جميل كما نبه القرآن في سورة التغابن: ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)) سورة التغابن: 11.
فالمؤمنون يعيشون وهم مطمئنون أن ما يحدث لهم هو أمرٌ مقدرٌ حسمه الله سبحانه بسابق علمه. فهو سبحانه قدرعلى المؤمنين أقضية متباينة, ولطّف من وقعها عليهم برحمته ليقووا على تحملها ويتقبلوها متمسكين بإيمانهم واضعين أنفسهم في دائرة عنايته. هؤلاء قد آمنوا بربهم حقاً وصدقاً, وأسلموا قيادهم له, يرون ما يجري لهم من متغيراتٍ فيتقبلونها بهدوء وسكينة لأنهم يعلمون وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف, أن الأمر أشبه ما يكون - ولله المثل الأعلى- بمن يجلس متراخياً في صالة يشاهد فلماً, فهو يتابع بثقة كاملة الممثلين وأدوارهم وقد رسمت من قبل وحسمت, فالمشاهد قد تكون مليئة بالحركة والرعب, وقد تكون مفعمة بالسكينة والمسرة, ولكن يبقى هنا في نفوس المؤمنين شغف الإيمان ومسرته. أما مشاهد الصراع فقد أعدت وأحكمت لتشغلَ أصغر حيزٍ ضمن مكونات اللوحة وتفصيلاتها. وفي النهاية فإن الجزئيات والتفاصيل منضوية في علم الله سبحانه وتعالى.
فالمسلمون الذين فهموا حقيقة القدر وأدركوا سرّ الابتلاءات, يرون في الكوارث؛ كالمجاعة والفقر جانباً إيجابياً فلا يضيقون به ذرعاً, واعين أن سلوكهم الأخلاقي الذي يُبدونه حيال الابتلاءات أمرٌ بالغُ الأهمية في نظر الله سبحانه. فعندما يُواجه المؤمنون بمثل هذه المكاره, لا يكونون لقمةً سائغةً للاكتئاب والضغوط , والآلام والخوف والهلع لأنهم على يقين أن الله سبحانه سيبدل كل هذه المصاعب لتصبحَ خيرًا ويسرًا. ويوجه الله تعالى الخطاب للمؤمنين قائـلاً: ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) ) سورة النساء: 141.
وينبغي أن ندرك هنا أن كل ما ينزل بالمسلمين في هذه الدنيا من مصائب وفقد للممتلكات وضعف في البدن أو مرض أو حتى العجز والموت, ينبغي أن لا يعتبروها بالضرورة مؤشرات سيئة، بل هي امتحانات تجري بعلم الله تمحيصاً لإيمانهم بالله عز وجل. فلو صبروا على هذه الاختبارات وتجاوزوها بسلامٍ, فإنّ لهم أجراً عظيماًعند الله في الدنيا والآخرة, وسينالون في نهاية هذه الاختبارات الانتقالية جزاءهم متمثّلاً في حياةٍٍ خالدة سرمديةٍ في جنات النعيم.
فيصبح المؤمنون المدركون لهذه الحقيقة أكثر صبرا عندما يواجهون الشدائد في حياتهم, وبالمقابل تفشل خططُ الكفار وتُحبطُ كل جهودهم. وعند رؤية هذا الإخلاص والصبر والرّضا لدى المؤمنين, يدرك الكفار أنهم عاجزون عن أن يسببوا لهم أي أذى. وتفصحُ العبارات التي ينطق بها المؤمنون في مواجهة أي وضعٍ متأزم عن مدى استسلامهم لربّهم وثقتهم به عزّ وجل. ويتلوا علينا القرآن الكريم بعضاً من هذه العبارات: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)) سورة إبراهيم: 13
( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51) ) سورة البقرة: 51.
وهذا الموقف هو النتيجة الطبيعية لإذعـان المؤمنين للقدر الذي كتبه الله عليهم, فكل من وثق بالله وتوكل عليه لن يداخله الخوف والحزن, والقرآن يعلنُ:
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) ) سورة الأحقاف: 13.
( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(112) ) سورة البقرة:112.
( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) سورة يونس: 63-64.
ويكشف الله لنا في آياتٍ أخرى أنّ عباده الذين آمنوا به وأسلموا له قيادهم قد استمسكوا بحبل الله المتين:
( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (22) ) سورة لقمان: 22.
( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) ( سورة البقرة: 256.
النظر إلى الأحداث باعتبارها منتهية
عندما يدرك المؤمنون أنهم يُمتحنون في هذه الحياة الدنيا, فإنهم يشهدون الأحداث من منظور المستقبل, وماذا يعني ذلك ؟ الحقيقة أنه لا عبرة لِعِظَمِ المشقات ومدى شدتها طالما أنها سوف تنتهي وتزول, كأن يُتهم أُناسٌ بجناية زائفة فيعانون من جرائها ألوان الظلم والجور, ولكن لا بد للحقيقة أن تظهر أخيراً. وإذا لم ينته الظلم في هذه الدنيا, فسينال الذين تسببوا في وقوعه عقوبة ما قدمته أيديهم يوم القيامة. ويتطلع أولئك الذين عانوا من الظلم إلى اليوم الذي ينالون فيه جزاء صبرهم واحتسابهم. ويمر الوقت مسرعاً, وتنتهي كل مشكلة كطرفة عين. وقد أوضح القرآن لنا أن الله عز وجل وعد أن يجعل نهاية كل اختبارٍ يُمتحن فيه المسلم برداً عليه وسلاماً:
( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) ) سورة الشرح: 5-6.
لذا, فالمؤمنون يثقون في عدالة الله المطلقة, منتظرين الفرجَ , دون أن يفقدوا الأمل. فهم واثقون دائماً أن اليُسرَ لا بد أن يعقبَ العسر, سواء في هذه الدنيا أو في الآخرة. وهذا ما قصدناه من رؤية الأحداث من منظور المستقبل.
ويعرف المسلمون أنهم شهداء على أقدارهم ومقادير الناس من حولهم , فيلاحظون كل شيءٍ بصبرٍ وثقةٍ وإذعانٍ , غير قادرين على إيقاف تيار الأحداث أو تحويل مجراها لأنها تسير بعلم الله , وكم من آية ترسخ هذا المعنى في أذهانهم: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) ) سورة البقرة: 216.
وبمعنى آخر, فكل ما يسوء المؤمنين حدوثه سوف يتحول إلى صالحهم إن بقوا متمسكين بإيمانهم بربهم صابرين على قضائه, فهذه الاختبارات فترةٌ تدريبيةٌ تعمق إيمانهم وتأصل سلوكياتهم الأخلاقية فيصبحون من الجانب روحيا أكثر نضجاً وفطنةً , وتُرفعُ درجاتهم عند ربهم في الجنة.
والذين يدركون هذه المكانة الروحية السامقة هم جماعة مؤمنة امتثلت لأمر الله سبحانه من أعماق قلوبها. أما الذين لا يسلمون قيادهم للقدر ويرفضون الدين أصلاً فسينهارون من اليأس والخوف والاضطراب, وقد سدت أمامهم منافذ الأمل نحو النجاة. وسيبقون في شقاءٍ وتعاسةٍ روحيةٍ دائمة ٍ طالما انطفأ لديهم بصيص الأمل في نعيم الآخرة: ( فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) ) سورة الأنعام: 125.
إن حالة الخواء الروحي هذه تمخضت عن رفض هؤلاء القوم لقدر الله فيهم, حيث جنوا على أنفسهم بظلمهم هذا. فالله عز وجل- بكمال قدرته وسعة علمه - يتحكم في مصائر الخلق, ويهيمن على كل شيء في ملكه, وهذه بحد ذاتها نعمةٌ لا حد لها على المؤمنين. أما أولئك الذين خفتت أنوار إيمانهم أو قُل انطفأت, فهم لا يعرفون لهذه النعمة قدرا ولا يستطيعون الإذعان لميرهم المقدر عليهم فينتهي الحال بهم إلى الاستسلام لليأس والقنوط حتى يلقوا ربهم. فما هذه الحالة سوى عقوبة روحية جلبوها لأنفسهم عمدا وقصدا لقلة ثقتهم بربهم عزّ وجل.
( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) ) سورة يونس: 44.
المسلم أوقات الشدائد
تتكشف سمة الإيمان للإنسان المسلم وسلوكه الأخلاقي بجلاءٍ عند وقوع الشدائد. ففي هذه الأوقات العصيبة نرى الأخلاق السامية للمؤمنين, وشجاعتهم, وثقتهم بالله ووعيهم, وصبرهم ورباطة جأشهم, والاستعداد للمسامحة وتضحيتهم, ورحمتهم وإنسانيتهم وتقديرهم, وضميرهم الحيّ وسكينتهم.
ويشير تعبير "المسلم أوقات الشدائد" إلى الفرد الذي يتجشم عناء كل عنت ومشقةٍ وحرمانٍ وهو يبدي تلك الشمائل الرفيعة السامية. فمثل هؤلاء القوم لا يساومون على أخلاقهم, بل يتصدون لكل مكروه بتبصرٍ ووعي وثقة بالله تعالى, ويراقبون كل ما يحدث وما يمكن أن يحمله من إيجابية, داعين الآخرين إلى التزام بهذه الأخلاق الرفيعة نفسها. وكما يقول القرآن الكريم : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) ) سورة الأحزاب: 10.
وعندما نتكلم عن أوقات الشدة, مثل الكوارث الطبيعية, وفقدان العمل أو الإفلاس وما شابهها من أحداث, يتبادر إلى أذهاننا نماذج من أناسٍ لا يعرفون لله سبحانه وتعالى قدراً. أما أولئك الذين يتحلون بالإيمان, فاللحظات الصعبة تعني مواقف جدّية قد يُحرمُ معها المُسلمونَ أبسط متطلباتهم الضرورية, حيث تصبح المنغصات أشد خطورة من تلك التي اعتادوها في حياتهم اليومية. ويصف لنا القرآن الكريم الوقت الذي تبلغ فيه القلوب الحناجر بأنها فترة يقع فيها كل ما يمكن تخيله من شدّةٍ ومرضٍ ومصيبةٍ تحدث للإنسان آخذٌ بعضها بزمام بعض, كمن يُلقى بهم خارج منازلهم, أو وقوعهم في شراكٍ نصبتْ لهم أو لأهلهم فيصبحون في مشقة وحزن شديدين.
وقد أورد القرآن الكريم نماذج لمثل هذه المشقات التي لاقاها الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون المخلصون. وقد تحمّل المؤمنون أصنافاً مختلفةً من الابتلاءات الشديدة لأن الله سبحانه خاطبهم بقوله : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) ) سورة البقرة: 214.
يخبرنا الله عز وجل في هذه الآية أن المؤمنين سيتعرضون لشدائد كثيرة, فالذين صبروا واحتسبوا سيُرضيهم الله تعالى ويجزيهم خير الجزاء. وأوقات الشدائد تميز بين المؤمنين الصادقين والمؤمنين ضعيفي العزائم الذين همهم العيش في الرخاء والبحبوحةُ. أما مسلمو الصنف الأول فإنهم يستجيبون عند وقوع الشدائد والكربات بقولهم:
( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) ) سورة البقرة: 156.
صوت الضمير وصوت النفس الأمارة أوقات الشدائد
يستمع الناس عندما يواجهون أية شدّةٍ أو منغّصٍ لنداءين منبعثين من عالمهم الباطن, أحدهما صوت ضميرهم الحيّ يحثهم على التزام السلوك الذي يرضي الله عز وجل مضحين بالنفس ثابتين على الشجاعة والاستقامة. فالذين أصاخوا لهذا النداء سيختارون الصبر لوجه الله والثقة به سبحانه. وينبعث النداء الآخر من النفس الأمارة التي وصِفتْ بحق "الأمّارة بالسوء"، وهو نداءٌ يحث على العصيان والفسوق والأنانية والجبن, جالباً لأولئك الذين استجابوا له الخسران المبين ليصبحوا للشيطان قرناء. ولتوضيح مدى الخسران الذي يتكبدونه من جراء صفقةٍ عقدوها مع الشيطان, كان من الضروري أن نعلمَ كيف مارس الشيطان ُ تأثيره عليهم. فقد قدّم القرآن الكريم معلوماتٍ مفصّلةٍ في هذا الموضوع وحذر الناس من مغبة الوقوع في شراكه.
فعندما خلقَ الله آدمَ عليه السلام أمر الملائكة والشيطانَ أن يسجدوا له, فسجد الملائكة طائعين, وأبى إبليس بكبرياءٍ وتغطرسٍ أن يفعل كما فعل آدم عليه السلام, فطُردَ من الجنة لعصيانهِ. ثمّ إنه طلب من الله أن يُمهله إلى يوم القيامة ليحاول إغواء الناس. فأجابه الله سبحانه إلى طلبه مُعلِماً إياه أنه لن يكون لهُ سلطانٌ على عباده المؤمنين. عندها أقسم الشيطان أن يُغوي الناس بما يقدّمهُ لهم من وعودٍ كاذبة وخداع ٍو ما يعده لهم من شراكٍ يقعون فيه ليُضلهم عن الصراط المستقيم. ويذكر لنا القرآن الكريم هذا القَسَم: ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) ) سورة الأعراف: 16- 18.
( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) ) سورة الإسراء: 62-64.
مثلما ذكرت الآية، يحاول الشيطان بمختلف السُبلِ أن يبعد الناسَ عن الصراط المستقيم, إياهم من تقديم واجب الشكر لخالقهم عز وجل, أو أن يعيشوا حياةً خيّرة, ولهذا فإنهُ يسعى لجرّ الأكثريةَ من الناس ليكونوا في صفّهِ مستغلاً نفوسهم الأمارة. لذلك نرى الناس عندما يقعون في الشدائد, يوسوس لهم الشيطان أنانيةً ألا يفكروا إلا في أنفسهم لتحقيق مصالحهم الشخصية مصوراً لهم التضحية والرّحمة على أنها أمور سلبيةٌ فيها الخسارة لهم: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) ) سورة البقرة: 168-169.
فينبغي على المسلمين, لهذه الأسباب مجتمعةً, عند مواجهة الشدائد والمنغصات والكوارث أن يتصرفوا وفقاً لنداء فطرتهم السويّة كي لا يكونوا في صف الشيطان منفذين ما يريده من أنانية وانتهازية وإصرار على الشهوات وكثير من الصفات السلبية الأخرى, وبالتالي ينحرفون عن أخلاقيات القرآن العظيم.
أما المسلمون الصادقون فيستمعون لنداء فطرتهم ويتخذون الصلاح لهم سبيلا. وقد صرّح القرآن الكريم بضرورة إظهار الأخلاق الصالحة: ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21) ) سورة محمد: 21.
يعلم كثير من الناس أن الإيمان الذي يظهر أثناء الملمّات يدلّلُ على سمو الأخلاق, فيقسموا بدورهم أن يبقوا مؤمنين أقوياء في مثل هذه الأوقات العصيبة. ولكن عند الامتحان قد لا ينسجم سلوكهم مع وعودهم التي قطعوها على أنفسهم، وقد يتصرفون بسلبيةٍ عند مواجهة أدنى المنغصات, وفجأة يستشيطون غضباً إزاء أي موقف ويكيلون الاتهاماتِ الساخطة بدلاً من مشاعر الحب والتسامح, ويتحولون في لحظةِ لمواقف الريبة والتمرد والفظاظة. وهنا يتمايز المؤمن القوي عن الضعيف, ويطفو الغثاءُ على السطح. فأما هؤلاء الذين ضَعُفَ إيمانهم فيحرق القلقُ قلوبهم, ويصبحون أقربَ إلى صف الكفار وأعداء الإسلام وممارساتهم منهم إلى صف أهل الإيمان الصادق. بينما تزيد مثل هذه الظروف المؤمنين الصادقين رسوخا في الإيمان وثباتا على الحق.
فكل الشدائد والمصاعب التي نواجهها في حياتنا اليومية ما هي إلا اختبارٌ ووسيلةٌ للوصول إلى السعادة السرمدية التي لا يمكن بحالٍ من الأحوال مقارنتها بما في الدنيا من متاع زائل. هذه السعادة السرمدية والنعيم المقيم الذي يسعى المؤمنون إلى الحصول عليه ونيله في الآخرة. ومن العجب أن هذه الشدائد تزيد المؤمنين المخلصين الصادقين طمأنينة وسكينة وثباتا، وتجلب لهم مزيداً من الحب والاحترام والتقدير من الناس المحيطين بهم. فهي تعد، بالنسبة إليهم، نعمةً إضافية تعمق إيمانهم وترسّخ يقينهم بربهم عز وجلّ. وهي نعمة كبيرة تزخر بفوائد جمة تجعل المؤمنين الآخرين يتخذون تلك الثلّة المؤمنة مثلاً يحتذى به. ولهذا أثر عام على الناس المحيطين بهم بفضل الله تعالى, كما ينالون أيضا تقدير غير المسلمين واحترامهم.
ومن يعتقد أن هناك حدثا ما خارج إرادة القدر الإلهي يكون بالضرورة تحت تأثير سلطان الشيطان القوي المثير الأول لهذه الشكوك, فالشيطان يفرح أيما فرحٍ عند رؤية من يقعون من الناس في شر أحابيله. ويقع إيمان بعض الناس أحياناً تحت تأثير وساوس الشيطان فيعتبرون أن "حدثا ما" ليس له من أهمية واضحة يمكن أن يكون خارج دائرة القدر أو هو بعيد عن تحكم الله تعالى وعلمه وقصده. فينبغي على المؤمنين أن يتنبهوا لمثل هذه الأفكار ويعرفوا كيف يتعاملون معها حال ورودها على خواطرهم.
وهناك شيء آخر يتعين إدراكه، وهو أن فوات بعض الأحداث أو المواعيد، مهما ضعُفت قيمتها وقلّتْ أهميتها له يمكن أن يكون له فوائد جمة. مثال ذلك أن يفوتك برنامجٌ تلفزيونيٌّ محدّدٌ, أو تنسى طلب وجبة طعامٍ، فقد يوفر لك عدم مشاهدة التلفاز عمل برٍّ آخر تؤدّيه أو إبداع أفكارٍ إيجابية, أو قد تصل إلى فكرةٍ تزيد من قدرتك على طاعة الله سبحانه والتبتل إليه, أو تسخير هذه الفترة الزمنية البسيطة لذكر الله عز وجل، فيكرمك الله بأجر كبير ما كنت لتناله لو أنك قبعت أمام شاشة التلفاز. وقد يكون نسيانك طلب وجبة الطّعام سببا في المحافظة على صحتك من أحد الأمراض. وقد يجد المبتلون بضغط الدم العالي أن معدّل السكر قد عاد إلى مستواه الطبيعي عند نسيانهم أكل الشرائح التي تعودوا على أكلها. وهكذا, عندما يُسلمُ المؤمنون أنفسهم ليد العناية الإلهية سيعلو شأنهم في عين الله سبحانه وينالون رضوانه ويصلون إلى حقيقة الحبّ و الرضا .
وهناك أمثلة لا تحصى مأخوذةٌ من حياة الناس اليومية, وعلينا أن ندرك هذه المسألة ولا ندعها تتسرب خارج عقولنا دون فهمٍ ورويّة. فكل ما يواجه الناس من قضايا , كبرت أهميتها أو صغُرتْ هي واقعة لا محالة تحت قدر الله سبحانه وعلمه. ولكن الشيطان يوسوس لنا بالقول إنّ مثل هذه الأحداث أمور أساسية وضرورية لمسيرة الحياة اليومية ولا علاقة لها بقضاءٍ ولا قَدَرٍ. لهذا ينبغي أن يكون المؤمنون على أكمل يقظةٍ و انتباه لرد مثل هذه الوساوس الشيطانية المدمّرة . ولكي نستطيع أن نفهم هذا الأمر لابد أن نبقيهِ حيّاً في أذهاننا, عندها نرى الحكمة والصلاح في كل ما يجري من أحداثٍ, لأن كل ما يحدث إنما يقع وفق خطةٍ إلهيةٍ مرسومةٍ، وهي نعمةٌ عظيمةٌ لأهل الإيمان في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة إن شاء الله تعالى. هذه حقيقةٌ جليلة تمنح للمؤمنين الحكمة والعزيمة والراحة والقناعة.
التمييز بين الخيـر والشـرّ
خلق الله سبحانه الخير والشرّ, والجمال والقبح على حدٍ سواء, وجعلهم اختبارات على الطريق إلى الجنة أو إلى النار, حيث يتمايز الخير بوضوحٍٍٍ عن الشر طيلة زمن الاختبار؛ فهناك المؤمنون الصابرون, وهناك أيضاً الضعاف الذين لا يتحملون مواجهة الشدائد, وهناك فريق أخذ على عاتقه مواجهة تيارات الإلحاد وإنكار الدين، وهناك فريق آخر يكتفي بموقف المتفرج على الأحداث لا يقدم ولا يؤخّر, وثمة أناس كثيرون ضعُفت عزائمهم أمام نفوسهم الأمّارة بالسوء فلم يصغوا لنداء فطرتهم السليمة.
ولعل هناك سببًا جوهريّا لهذا الارتباط القوي بين مفهومي الخير والشر, حيث لا يمكن أن تُدركَ قيمةُ الخير إلا من خلال هذا التباين بين المفهومين.
فلا يمكن للناس مثلاً فهم قيمة الخير إذا لم يكن للشرّ والحرمان والبلايا من وجود. فضع مثلاً ألماسةً بين كومة أحجارٍٍ عاديةٍ, فستراها ازدادت حُسناً وبريقاً.
ويكمن سرٌ آخرٌ وراء ابتلاءات الحياة الدنيا الزائلة, حيث يُمتحن الناسُ بالشر والخير ويصبح الفارق بين الخير والشر جلياً نتيجة هذا الامتحان، فالخير يوجد في جوانب كثيرة من الحياة، وبجانبه الشر الذي لا ينفك يصارعه. فحين ينتزع مَلَكُ الموت أرواح الأشرار انتزاعاً رهيباً, يُدعى أهل الصلاح لدخول الجنة حيث النعيم والجمال السرمديين. ويبين القرآن لنا أن هذه الاختبارات هي السبيل التي يتمايز فيها المؤمنون عن أولئك الذين امتلأت قلوبهم إنكارا وجحودا: ( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) ) سورة آل عمران: 166-167
ذكرت هذه الآيات, أن سلوك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة الشدائد هو الفيصل الذي يميز المؤمنين الصادقين عن غيرهم من المنافقين.
وقد ذكر بديع الزمان رحمه الله هذه الفكرة بعمق موضحاً كيف أن الشدائد والملمّات تميّز بين الخير والشر, وقدّم لنا حكمة وإرشاداً بالغين حول هذه المسألة عندما سُئلَ عن الحكمة من خلق الشيطان ووجود الشرّ , فأجاب رحمه الله: إن هناك أسباباً جوهرية تكمن وراء كل مشقةٍ وحرمانٍ ومكروه، وأهم الأسباب هو أن نفرق بين الموقف الهابط الوضيع وذاك السامي الرفيع.
وقدّم لنا مثالاً ليرينا أن الكرب والشدّة يفجّران أعظم ما في الإنسان من طاقات بناءةٍ . فابتلاءات الحياة الدنيا تُلقي الضوء عادة على أسوإ ما في الإنسان من صفات, إذ تمنحهُ الفرصة المناسبة لإصلاحها. فوجود مرضٍ عصيبٍ في إنسانٍ ما قد يدلنا على وجود اختلالٍ في شخصيته أو خواءٍ في روحه. فهذه امرأةٌ تكشفت لها بعض عيوبها, فهي تبادر لتوها إلى إصلاحها في حياتها قبل فوات الأوان, وتتخلص بعد هذه السقطة من كل شائبة وتحسنُ أخلاقها. وهذا رجلٌ ذو سمعة حميدةٍ شريفةٍ أفلس لسببٍ ما ثم لجأ لوسائلٍ غير شرعيةٍ لتحصيل المال ثانيةً. أرأيت كيف أن البلاء قد يُظهر صفات سيئة عند إنسان ما, ولو أن هذا الإنسان لم يرتكب إثما لما وضع شرفه موضع ريبةٍ رغم حاجته للنقود.
يوضح لنا بديع الزمان رحمه الله تعالى في هذه الرسائل مواقف لا بدّ أن تتحول لاحقاً إلى خيرٍ محضٍ , فكتب قائلاً :
"فوجود الشر والأذى, والبلاء والمكروه والمعاناة في الكون ليس بالأمر السّيئ أو المستقبح بالضرورة , لأن هذه المعاني إنما خُلقت لغرضٍ مهمٍ , فالتقدم والتراجع شيئان لا بد منهما في حياة البشر, فهناك فرقٌ كبير مثلاً بين النمرود والفراعنة من جهةٍ , والأنبياء عليهم السلام والأولياء من جهة أخرى . ولكي نميز الأرواح الخبيثة عن تلك الأرواح الطاهرة السامية , كان خلق إبليس فتحاً لميدان الصراع والمنافسة والاختبار, وبُعثتْ الرُسلُ الكِرام لتميط اللثام عن عظمة سرّ التكاليف الإلهية. فلولا وجود الصراع والمنافسة لبقيت الصفات الخبيثة وتلك الحميدة كامنة بلا تمايز في أصل الوجود الإنساني, ولبقيت تلك الروح السامية الرفيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه كتلك الروح الوضيعة لأبي جهل وعلى نفس المستوى دون تمايز, مما يثبت لنا أن خلق الشر والقبح ليس بالضرورة أمرًا رديئاً أو سيئا طالما أنهما يؤديان إلى نتائج حميدة" 6.
وهناك موضوع آخر تظهر من خلاله أهمية ابتلاءات الحياة الدنيا, فلو لم هناك شر أو بلاء في هذه الدنيا, لبقيت سمات الخير في شخصية الإنسان المؤمن كامنة دون أن تظهرَ على جوارحهِ و لأصبحنا غير قادرين على رؤية صفات الصلاح والبر لدى عباد الله المخلصين , ولن يكون بإمكان الإنسان المؤمن الترقي في درجات السمو الروحي. لذا , فكل حادثةٍ تبدو سلبيةً في ظاهرها إنما تفتح آفاقاً لا حدود لها من الترقي لتصل بالإنسان المسلم إلى درجة الكمال الخلقي وتعمق بعده الروحي وترفع درجته ومكانته في الجنة إن شاء الله تعالى . كتب بديع الزمان رحمه الله تعالى موضحاً :
"يشكل الدين امتحاناً , أو اختباراً ارتآهُ الله سبحانه لكي تتمايز الأرواح السامية الرفيعة عن تلك الأرواح الدنيئة الوضيعة في ميدان سباق الحياة . وإليك الآن هذا التمثيل الرائع, تماماً كما نُدخلُ المواد الصلبة في النار كي نفصل الماسَ عن الفحم , والذهب عن الخبث , كذلك الدين يشكل مجموعة تكاليف فرضها الله على الإنسان ليدخل في ميدان منافسة فسيحة تشكل الفرائض أهم عناصرها. فالدرر القيمة في منجم قدرات الإنسان تنفصل عن تلك المواد الخبيثة , وقد تنزل القرآنُ الكريمُ لكي يرقى بالإنسان إلى حدود الكمال الإنساني وهو يقدّمُ الاختبار تلو الاختبار في ميدان سباقٍ شاسع" 7.
فينبغي أن تتمايز الصفات الحميدة الراقية , وفقاً لهذه المقارنة , عن تلك الخبيثة الوضيعة, ولا يتم ذلك التمايز إلا باستخدام النار والمقصود بها الفترة الزمنية المشحونة بالابتلاءات المريرة, كالشدائد والنكبات والمنغصات المختلفة وذلك لتخليص النفس البشرية من الصفات الخبيثة الكامنة في فيها, لتشرقَ بعدها شمائل الخير والصلاح على ضوء الإيمان واليقين.
وقدّم لنا بديع الزمان رحمه الله تعالى مثالاً آخر حول عملية فرز الذهب عن النحاس والمادة الخام الأخرى, وضرورة ضربهما "بحجر المحك" لينفصلا بهذه العملية عن بعضهما البعض مادتين قيّمتين, ثم يُزالُ خبث النحاس الذي لا خير فيه, ثم تُضرب المادة الخام بحجر المحك بقوّةٍ وتوضعُ في منخلٍ ناعمٍ ليتضح لنا وجود معدن الفضة فيُنقى من معدن النحاس الذي يقللُ من قيمتهِ . والسؤال : ماذا يقصد أستاذنا من "الضرب بحجر المحك"؟ هل هي معاناة المشقات والنكبات ومختلف أصناف المتاعب التي تكشف الجمال الباطني الكامن في داخل الإنسان ؟ إن قسوة المشقات والمحن تُظهرُ قوة إيمان الإنسان وتفوق شخصيته, وتميّزها عن غيرها. ومن بين نتائج هذا الاختبار أيضاً نضج شخصية المؤمن وتقوية الإيمان وتثبيت الجوانب الروحية فيها. إذاً , بهذه العملية يتم تطهير شخصية الإنسان المؤمن المتميزة من كل الصفات السلبية حتى تبدو وكأنها معدن ثمين. يقول بديع الزمان رحمه الله تعالى :
"وفجأة اُخطر للقلب صباح هذا اليوم ما يلي: إنّ دخولكم هذا الامتحان القاسي، وتمييزكم الدقيق في المحك مرات عدة ليخلّص الذهب من النحاس، واختباركم من كل جانب بتجارب ظالمة لمعرفة مدى بقاء حظوظ نفوسكم الأمارة ووساوسها، ومن ثم تمحيصكم تمحيصا دقيقا، كان ضرورياً جدًّا لخدمتكم التي هي خالصة لوجه الحق والحقيقة، لذا سمح القدر الإلهي والعناية الربانية به، لأن الإعلان عن هذه الخدمة السامية، في ميدان امتحان كهذا، تجاه معارضين عنيدين ظلمة يتشبثون بأتفه حجة .. جعل الناس يفهمون أن هذه الخدمة القرآنية نابعة من الحق والحقيقة مباشرة، ولا تداخلها حيلة ولا خداع ولا أنانية ولا غرور، ولا غرض شخصي ولا منافع دنيوية ، إذ ما كان عوام المؤمنين يثقون بها لولا هذا الامتحان، حيث كان لسان حالهم يقول: ربما يقولون ليغرروا بنا ويخدعوننا. ويرتاب خواص المؤمنين ويقولون: ربما يعملون هكذا رغبة في الوصول إلى مقامات معينة، وكسباً لثقة الناس بهم ونيلاً للإعجاب، كما يفعله بعض أهل المقامات الرفيعة، وعندئذ لا يثقون بالخدمة. ولكن بعد الابتلاء، اضطر حتى أعتى عنيد مرتاب إلى التسليم بالأمر. لذا إن كانت مشقتكم واحدة فإن ربحكم ألف إن شاء الله" 8.
لفت بديع الزمان رحمه الله تعالى انتباهنا, من خلال هذه الأمثلة, إلى أسباب أخرى لهذه المنغصات والشدائد حيث يستلهمُ الناسُ من أولئك المؤمنين سلوكهم الأخلاقي الرفيع وسبيل تخلصهم من صفاتهم السلبية أثناء مواجهتهم لتلك الابتلاءات.
فإخلاص المؤمنين وما يعيشون به من سلوك أخلاقي رفيع وتحليهم بالاستقامة سيبدو جليا أثناء معاناة الشدائد المريرة, فيلحظ عامة الناس هؤلاء المؤمنين وليس لهم من غرض مادي ولا مكافأة ينتظرونها من أحد عما يقدمونه من طاعات امتثالا لأمر ربهم عز وجل ، وسيعترف عندها حتى الذين يثيرون الريبة والشكوك حول المسلمين أن كل جهد قدمه ذلك النفر المؤمن لا باعث له سوى رضوان الله سبحانه، وسيشهد الجميع بطهارة أهدافهم وسموها، وسيقدّرون ما بذلوه من تضحية في سبيل الحق، وهذا ما يثبّتهم ويزيدهم قوة وعزما.
الثبات على الأخلاق السامية عند المشقات والشدائد أيضا
من الطبيعي أن تمر على الناس في اليوم الواحد أمورٌ عديدةٌ متباينة ، كالشعور بالإرهاق والجوع والضعف، ولكن قد يكون المسلمون محل اصطفاء من الله ليمروا بمحن تكون معاناتهم خلالها أشد وطأة عما اعتادوه من ذي قبل, فنرى فرقا شاسعا بين ما يبديه المؤمنون وغير المؤمنين من سلوكيات أخلاقية حيال المواقف ذاتها. وقد يؤدي ما يلحق بالكافرين من مشقة إلى العصيان والخوف والعداوة, فاقدين الأمل والاستقامة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلا، فكل ما يفعلونه نابعٌ من حرصهم على شؤون الدنيا ومتاعها: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) ) سورة الجاثية: 24.
فوفق فهمهم للحياة، سوف ينتهي كل شيء عندما تقف ساعة الحياة عن الدوران لذا فهم حريصون على تحقيق الراحة ونيل أقصى قدر من اللذة، وهم حريصون كذلك على الحصول على مقابل لأعمالهم وكل ما يفعلونه من خير في هذه الحياة الدنيا دون انتظار أيّ جزاء في الآخرة. ومثل هذا التفكير يجعلهم غير قادرين على تحمل الشدائد والمشقات. فما هم بالصابرين ولا الواثقين، كما أنهم غير قادرين على إبداء التسامح ولا معاملة الآخرين معاملة إنسانية تزخر بمشاعر الشفقة والرحمة. ولاعتقادهم بعدم وجود مكافأة أو فائدة لبذل مثل هذه الفضائل فإنهم يقعون في حبائل اليأس معتقدين أن هذه الشدائد لا تجلب لهم سوى الخسران .
إن هذا الضرب من التفكير خطأ كبير، لأن حياة الخلود الحقيقية للإنسان تبدأ بعد الموت, ويوم القيامة يُحاسبُ كل فرد على ما قدمت يداه, فيتسلّمُ جزاءه العادل. فالذين تمسكوا بالأخلاق السامية الرفيعة لن يمسهم سوء ولا نصب بل ستكون مكاسبهم عظيمة جليلة، وسيُجزونَ خيراً على كل كلمة نطقوا بها، وعلى كل عمل خير أدّوه وعلى كل تضحية بذلوها، وعلى كلّ إخلاص أبدوه.
أما أولئك الذين خرجوا من ربقة الدّين فهم لا يدركون لهذه الحقيقة أهمية، فتأخذهم رهبة مفزعة أمام المواقف الحرجة لأنهم ينكرون أصلا فكرة الاختبار حيال كل ما يقومون به من أعمال، وهذه مسألة ينبغي أن نُوجه لها عناية كبيرة: ( وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)) سورة النساء: 104.
يتعرض المؤمنون وغير المؤمنين, كما أوضحت الآية الكريمة, للمشقات والمصاعب نفسها , ولكن الكافرين، لإصرارهم على كفرهم, لا يقبلون أنّ ما يجري من أحداثٍ هو أمرٌ مقدرٌ من الله ابتداءً, وبذلك فهم لا يرجون ما يرجوه المؤمنون من ربهم عز وجل. فالفارق الأساسي بين الفريقين هو ذهولُ الكافرين وغفلتهم عن الهدف الجوهري لحياتهم الدنيا. وهو ما يميز المؤمنين في الدار الآخرة عن أولئك الكفرة.
ومن جانب آخر, يمثلُ الجوعُ مشقة ومشكلة كبيرة لدى الكافرين, بينما هو اختبارٌ يُبرزُ عظمةَ أخلاق المؤمنين, وهم يعتبرونه فرصةً ما ينبغي أن تفوتهم دون ما فائدةٍ يحققونها, ويمثل الإذعان لإرادة الله سبحانه والثقة به والصبر على قضائه. وفي مثل هذه الأوقات العصيبة, أهمية خاصةً بالنسبة لهم, غير فاقدين الأمل بربهم عز وجل, ملتمسين الجانب الإيجابي في كل ما يجري حولهم, وعلى هذا النحو أيضا يتجاوز المؤمنون هذا الامتحان بسلام.
إن أول ما يراعي الكفّارُ عادةً مصالحهم وراحتهم الشخصية, في حين يراعي المؤمنون ذوو الأخلاق الحميدة الحقّ ويجعلون إخوانهم المؤمنين أولى بالإحسان, فيفسحون لهم أوسع المجالس ويكرمونهم بأجود الطعام ويمدونهم بأفضل الملابس طواعيةً. فعند اشتداد البردِ مثلاً يقدّم المؤمنون لإخوتهم العون من أغطية ومآكل ومشارب, حتى وإن شعروا هم بالبرد, تغمرهم السعادة العارمة أنْ وفروا لإخوانهم أسباب الصحة والسلامة والراحة. ذلك أن السعادة القلبية التي ينالونها بفضل التضحية التي يبذلونها لا تُقارنُ بحالٍ إذا ما قيستْ بمتعة شربةٍ ساخنةٍ يحتسونها.
أما أن تُعاملَ الآخرين بإحسانٍ فيقابلونك هم بالإساءة والقطيعة, وتوجيه الكلمات النابية القاسية, فهذا سلوك لا يصدر إلا من قبل المؤمنين الواثقين بربهم عزّ وجل. وإليك صورة أخرى لمثال العمل الصالح: شبعان يبذل الطعام لجائعٍ, وثانٍ ينعم بالدفء فيعطي الكساء لمن يشكو البرد القارس, فكلا الرجلين يكبران في عين الله عزّ وجل. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية ينمّ عن قوّة إيمانٍ وإخلاصٍ لدى الفرد المؤمن وشدة ورع عنده وسمو أخلاق عند الشدائد.
وقد يستمع أهل الفضيلة - المستجيبين لنداء فطرتهم السليمة - لصوت النفس الأمارة تدفعهم نحو ارتكاب الآثام مصوّرة لهم صعوبة التمسك بالفضيلة والثبات عليها, متبعة شتى السبلِ لإبعادهم عن التزام الفضيلة موهمة إياهم أن البرد سيصيبهم إذا تصدقوا بما عندهم من كساء, ويجوعون إذا بذلوا الطعام للجائعين, وهذه إحدى أساليب الشيطان في استخدامه لأسلوب التخويف من الفقر لمنع المؤمنين من مد يد العون لإخوانهم الفقراء: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) ) سورة البقرة: 267-268.
تبين لنا الآيات السابقة أنّ الله قد أوهن كيد الشيطان ووهب رضاهُ للعاملين وفق سلوكيات القرآن السامية الرفيعة, ومنحهم سعادة روحية لا تقارن مع أيّ من الملذات الدنيوية مهما بلغت قيمتها. فالتضحية بالنفس, والصبر والإخلاص, وإبداء الكرم وبذل المشاعر الإنسانية والوفاء تعود على الإنسان بآفاقٍ من السعادة لا حدود لامتدادها. وقد امتدح الله تعالى في سورة الحشر أخلاق المؤمنين السامية حينما فتحوا بيوتهم لإخوانهم المهاجرين, مقدّمين لهم كل ما يحتاجونه, وقد يكونون هم في أشد الحاجة:
( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) ) سورة الحشر: 9.
ويصف الله تعالى لنا عطاءه العظيم للعاملين في سبيله عند تجاوزهم اختبار العطش والجوع والإنهاك في سورة التوبة:
( مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)) سورة التوبة: 120.
مثلما بينت هذه الآية الكريمة فإن كل كربٍ يعانيه المسلم أثناء سيره إلى الله تعالى يُحتسبُ له عملٌ صالحٌ, وعلى فرضِ أن الناس جميعا قد فُطروا على طاعة الله سبحانه وتقديم الصالحات من أعمالهم, فسينالون أتمّ الجزاء لصبرهم واستقامتهم, ولن يخافوا ظلماً ولا هضما.
ويوقن المؤمنون كذلك أنّ الله وحده سيوفيهم أجورهم لمعاناتهم المرض ومختلف الشدائد وأن الدنيا وما عليها مصيره إلى زوال. وبذلك, فلا تنقصهم الفطنة والحزم والثبات على مبادئهم، وقد علموا من القرآن الكريم أن الله سيمد من عمل في سبيله بالمدد والقوة الرّوحية. فهم مدركون أن ابتلاءات الحياة الدنيا تولّدُ إحساساً عظيماً بالطمأنينة عند مواجهة المشقات.
ولن يكونوا أبداً فريسةً سهلةً للخوف والقلق والاكتئاب بحكم إدراكهم لمجريات الأحداث أنها اختبارات على الطريق, وهيهات أن يفقدوا الأمل أو يساورهم الخوف.
القوّة التي تشدّ أزر المؤمنين
إنّ الشخصية القوية المستبشرة التي تبدو عند المؤمنين الصادقين أوقات المشقات والشدائد لا يُدركها من لا يؤمنون بقوة الله وقدرته المطلقة. فالشك يساورهم، وهم مرتابون في المصدر الذي يستمد منه المؤمنون قوتهم, ويبقون في جهل إزاء القوة التي تمدّ المؤمنين بهذه الطاقة المؤيدة. فالناس في عاداتهم أقوياء بما يملكون من وسائل مادّية وعلاقاتٍ اجتماعية. فتراهم دائمي البحث عن نوع من قوة تدعمها مصادر مادّية مختلفةٍ يظنونها مصدر القوّة عند المؤمنين, وهم جاهلون بأن قوة إيمان المؤمنين تنبع أصلاً من إذعانهم لقدر الله سبحانه وثقتهم المطلقة به, إلى جانب إيمانهم الراسخ بالآخرة. وتحفلُ حياة الأنبياء والصالحين بأمثلة خالدةٍ لتفجّرِ هذه الطاقات من معين الإيمان بالله تعالى والثقة به.
وتمثّلُ قصة سحرة فرعون أنموذجاً رائعاً في هذا السياق, حيث أظهر السحرة بعد إيمانهم بالله عز وجل قوّة إيمانية فذّة عندما هُددوا بالموت من قِبلِ فرعون. فقد حاول فرعون أن يُرهبهم بالتنكيل والموت ليبعدهم عن سبيل الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام, فكان جوابهم أنْ لا خشية إلا مِنَ الله تعالى وأن ما سيصيبهم هو من قدر الله تعالى فيهم. وبقيَ السحرة المؤمنون رغم شدة التهديدات متمسكين بإيمانهم واثقين بربهم عز وجلّ, وما كان لهم أن يُظهروا ذلك كلهِ لولا صدق توجههم إليه سبحانه : ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) ) سورة طه: 71-73.
ومثال آخر عن فتية آمنوا بنبوة موسى عليه السلام, في حين نجحت تهديدات فرعون في صدّ نفرٍ من شعبه عن الإيمان بالله فخسروا معه الدنيا والآخرة , وثبت أولئك الفتية المؤمنون لا يخشون في الله لومة لائم ولم تُجدِ معهم تهديدات فرعون وظلمه لزحزحتهم عن إيمانهم الخالص بالله عزّ وجل:
( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) ) سورة يونس: 83.
فالمؤمنون عامّة, كهؤلاء الفتية المخلصين الذين آمنوا بنبوة موسى عليه السلام , يُظهرون نفس الثقة والشجاعة عندما يناصبهم المجتمع العداء أو تجتمع عليهم المشقات والكروب أو تصيبهم الحاجة الماسّة، و يقول القرآن الكريم في سورة الأحزاب:
( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22)) سورة الأحزاب: 22.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق