الخميس، 9 فبراير 2017

به
كتب الله سبحانه الإحسان على كل شيء وأخبر أنه يأمر به على الدوام والاستمرار بقوله إن الله يأمر بالعدل والإحسان ( النحل 16 / 90 ) ورغب فيه بقوله إن الله يحب المحسنين ( البقرة2 / 195 ) وإن أمرا يكون سببا لحب الله سبحانه لجدير بأن يحرص عليه ويتنافس فيه ويبادر إليه ولا يتقيد ذلك الإحسان بالإنسان بل يجري في حق الملائكة عليهم السلام فإنهم يتأذون مما يتأذى منه الناس بل يجري في حق الحيوان المحترم بل في غير المحترم لقوله صلى الله عليه و سلم إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته وقد جعل لمن قتل الوزغ في الضربة الأولي مئة حسنة وفي الثانية سبعين لأن قتله بضربة واحدة أهون عليه من قتله بضربتين

(1/33)

والإحسان منحصر في جلب المصالح ودرء المفاسد وهو غاية الورع أعلاها إحسان العبادات وهو أن تعبد الله عز و جل كأنك تراه فإن لم تكن تراه فقدر أنه يراك وأفضلهما أن تعبد الله عز و جل مقدرا أنك تراه فإنك إذا قدرت في عبادتك ترى المعبود فإنك تعظمه غاية التعظيم وتجله أعظم الإجلال واعتبر ذلك لها صورة الأكابر والملوك فإن من نظر إلى ملك بنظر إليه فإنه يعظمه أبلغ التعظيم ويهابه أتم المهابة ويتقرب إليه بغاية ما يقدر عليه وهذا محكوم بالعادات فإن عزفت عن تقدير رؤيتك إياه فقد ترى أنه يراك وينظر إليك فإنك تستحي منه وتأتي بعبادته على أتم الوجوه
النوع الثاني الإحسان إلى الخلائق وذلك إما بجلب المنافع أو بدفع المضار أو بهما ولا فرق بين قليله وكثيره وجليله وحقيره فإن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( الزلزلة 99 / 7 ) وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ( الأنبياء 21 / 47 ) وفي الحديث كل معروف صدقة ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك وفي الحديث لا تحقرن جارة لجارتها ولا فرسن شاة وفي الحديث

(1/34)

تصدقوا ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة وعلى الجملة فالإحسان مكتوب على كل شيء وكل معروف صدقة كالكلمة الطيبة وطلاقة الوجه وتبسمه وانبساطه وهداية الطريق

(1/35)

النوع الثالث إحسان المرء إلى نفسه بجلب ما أمر الله بجلبه من المصالح الواجبة والمندوبة ودرء ما أمر الله بدرئه عنها من المفاسد المحرمة والمكروهة ولا فرق بين قليله وكثيره وجليله وحقيره فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ( الزلزلة 99 / 8 - 7 ) و من يعمل سوءا يجز به ( النساء 4 / 123 ) وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ( الأنبياء 21 / 47 )
فصل في بيان الإساءة المنهي عنها
الإساءة منحصرة في جلب المفاسد ودرء المصالح وهي متعلقة بالعبادات وبنفس المكلف وغيره من الأناس والحيوانات والمحترمات وعلى الجملة فلا يرجع بشيء من جلب المصالح ودرء المفاسد وأسبابهما إلى الديان لاستغنائه به عن الأكوان وإنما يعود نفعهما وضرهما على الانسان ومن أحسن فلنفسه سعى ومن أساء فعلى نفسه جنى

(1/36)

وإحسان المرء إلى نفسه أو إلى غيره إما بجلب مصلحة دنيوية أو أخروية أو بهما وإما بدرء مفسدة دنيوية أو أخروية أو بهما
وإساءته إلى نفسه وإلى غيره إما بجلب مفسدة دنيوية أو أخروية أو بهما أو بدرء مصلحة دنيوية أو أخروية أو بهما ولكل من أحسن إلى نفسه كان أجره مقصورا عليه وكل من أحسن إلى غيره كان محسنا إلى نفسه وإلى غيره وكل من أساء إلى نفسه كان وزره مقصورا عليه وكل من أساء إلى غيره فقد بدأ بالإساءة إلى نفسه وإذا اتحد نوع الإساءة والإحسان كان عامهما أفضل من خاصهما وليس من يصلح بين جماعة كمن أصلح بين اثنين وليس من أفسد بين جماعة كمن أفسد بين اثنين وليسن من تصدق على جماعة أو علم جماعة أو ستر جماعة أو أنقذ جماعة من الهلاك كمن اقتصر على واحد أو اثنين
فائدة في الحث على تحصيل المصالح ودرء المفاسد
وقد حث الرب سبحانه على تحصيل مصالح الآخرة بمدحها ومدح فاعليها وبما رتب عليها من ثواب الدنيا والآخرة وكرامتهما وزجر سبحانه عن ارتكاب المفاسد بذمها وذم فاعليها وبما رتبه عليها من عقاب الدنيا والآخرة وإهانتهما

(1/37)

ويعبر عن المصالح والمفاسد بالمحبوب والمكروه والحسنات والسيئات والعرف والنكر والخير والشر والنفع والضر والحسن والقبح
والأدب أن لا يعبر عن مشاق العبادات ومكارهها بشيء من ألفاظ المفاسد وأن لا يعبر عن لذات المعاصي وأفراحها بشيء من ألفاظ المصالح وإن كانت الجنة قد حفت بالمكاره و حفت النار بالشهوات
وجلب المصالح ودرء المفاسد أقسام
أحدها ضروري
والثاني حاجي
والثالث تكميلي
فالضروري الأخروي في الطاعات هو فعل الواجبات وترك المحرمات والحاجي هو السنن المؤكدات والشعائر الظاهرات والتكميلي ما عدا الشعائر من المندوبات والضروريات الدنيوية كالمآكل والمشارب والملابس والمناكح

(1/38)

والتكميلي منها كأكل الطيبات وشرب اللذيذات وسكنى المساكن العاليات والغرف الرفيعات والقاعات الواسعات
والحاجي منها ما توسط بين الضرورات والتكميلات
فصل في تفاوت رتب المصالح والمفاسد
ثم تنقسم المصالح إلى الحسن والأحسن والفاضل والأفضل كما تنقسم المفاسد إلى القبيح والأقبح والرذيل والأرذل ولكل واحد منها رتب عاليات ودانيات ومتوسطات متساويات وغير متساويات
ولا نسبة لمصالح الدنيا إلى مصالح الآخرة لأنها خير منها وأبقى ولا نسبة لمفاسد الدنيا إلى مفاسد الآخرة لأنها شر منها وأبقى
ومصالح الإيجاب أفضل من مصالح الندب ومصالح الندب أفضل من مصالح الإباحة كما أن مفاسد التحريم أرذل من مفاسد الكراهة

(1/39)

فصل في بيان مصالح الدارين ومفاسدهما
مصالح الآخرة ثواب الجنان ورضا الديان والنظر إليه والأنس بجواره والتلذذ بقربه وخطابه وتسليمه وتكليمه
ومفاسدها عذاب النيران وسخط الديان والحجب عن الرحمن وتوبيخه ولعنه وطرده وإبعاده وخسؤه وإهانته
ولا تقع أسباب مصالح الآخرة ومفاسدها إلا في الدنيا إلا الشفاعة
ولا قطع بحصول مصالح الآخرة ومفاسدهما إلا عند الموت فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقي بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة

(1/40)

وأما مصالح الدنيا ومفاسدها فتنقسم إلى مقطوع ومظنون وموهوم أمثلة ذلك الجوع والشبع والري والعطش والعري والاكتساء والسلامة والعطب والعافية والأسقام والأوجاع والعز والذل والأفراح والأحزان والخوف والأمن والفقر والغنى ولذات المآكل والمشارب والمناكح والملابس والمساكن والمراكب والربح والخسران وسائر المصائب والنوائب
ولا يعرف مصالح الآخرة ومفاسدها إلا بالشرع ويعرف مصالح الدنيا ومفاسدها بالتجارب والعادات
فصل فيما يبنى عليه المصالح والمفاسد
من المصالح والمفاسد ما يبنى على العرفان
ومنها ما يبنى على الاعتقاد في حق العوام

(1/41)

وأكثرها يبنى على الظن والحسبان لإعواز اليقين والعرفان
وأقلها مبني على الشكوك والأوهاوم كما في إلحاق النسب في بعض الأحيان
ومعظم الورع مبني على الأوهام
فمن المصالح ما لا يتعلق به مفسدة ولا يجده إلا واجبا أو مندوبا أو مباحا
ومن المفاسد ما لا يتعلق به مصلحة ولا يجده إلا مكروها أو حراما

(1/42)

وكل كسب خلا عن المصلحة والمفسدة ولم يكن في نفسه مصلحة ولا مفسدة فحكمه حكم الأفعال قبل ورود الشرع
وللمصالح تعلق بالقلوب والحواس والأعضاء والأبدان والأموال والأماكن والأزمان والذمم والأعيان أو بالذمم والأعيان
فصل في الوسائل
للمصالح والمفاسد أسباب ووسائل وللوسائل أحكام المقاصد من الندب والإيجاب والتحريم والكراهة والإباحة
ورب وسيلة أفضل من مقصودها كالمعارف والأحوال وبعض الطاعات فإنها أفضل من ثوابها
والإعانة على المباح أفضل من المباح لأن الإعانة عليه موجبة لثواب الآخرة وهو خير وأبقى من منافع المباح

(1/43)

ليست هناك تعليقات:

نفسى

 فلنغير نظرة التشاؤم في أعيننا لما حل بنا من محن إلى نظرة حب وتفاؤل لما عاد علينا من فائدة وخير بعد مرورنا بهذه المحن. ما أحوجنا لمثل هذا ال...