تثير الحدود في الإسلام جدلا واسعا في الغرب عن وحشية
العقوبات في الدين الإسلامي !! ومعظم المسلمين لا يفهم فلسفةالعقوبات في الإسلام ويظن أن الغرض من تطبيق الشريعة هو إقامة
الحدود بقطع يد السارق وقتل القاتل وعقاب الزناة …
في حين أن هذه العقوبات " الحدود " إنما جعلها الله تعالى لردع
وزجر الناس لكيلا تقع الجرائم ، ويكون تطبيقها في أضيق
الحدود وبشروط قاسية ..
فالإسلام احترم حقَّ الملكية للأفراد ، وجعل صيانتها حقاً من
حقوقهم المقدَّسة وعدَّ جريمة الاعتداء على الأموال كجريمة الاعتداء
على النفس أو العرض ومن ارتكب واحدة منها فقد استوجب أشدَّ
أنواع العقوبات ، وإذا مات المسلم مدافعا عن حقِّ من هذه الحقوق
فإنه يموت شهيداً ..
لذلك شرع الله حدود الإسلام لأنها حياة للمجتمع ، وطهرا للمخطئ
الذي لو فكر وقدر توقيع الحد عليه بعد سقطته لراجع نفسه ألف
مرة قبل أن يخطئ ويلبي وسوسة الشيطان إذ يعلم السارق أن يده
أغلى عنده ألف مرة مما قد تتناوله سرقة أو غلولا مهما بلغت قيمته ..
وكذلك من يسقط في بئر الزنا أو يخرج على أمن المجتمع صائلا باغياً
أو يقتل معصوماً أو يشرب خمراً أو يقذف بريئاً أو غير ذلك فهذه الأفعال
إذا قورنت بعقوبتها الشرعية لردعت كل من يساوره الشيطان إتيانها ..
وقد علمنا أن اكثر من أقيم عليه الحد من النبي صلى الله عليه وسلم كان
آتيا إليه معترفاً بنفسه على اقترافه للجريمة طالبا تطهيره مما لحق به من
سقوط ، ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يراجع المقر
ويرده وكأنه يفتح أمامه باب التوبة بعد ندمه والتماساً للعافية فيقول للمغيرة
بن شعبة وقد جاءه بغلام له قارف الزنا مؤنباً وموبخاً :
" هلا سترت عليه بثوبك " ..
ويقول لأمته " ادرؤوا الحدود بالشبهات " فلم يكن صلى الله عليه
وسلم متعطشاً للعقوبة ولا باحثاً عن إنزالها بمن يضعف من أمته قدر
بحثه عن معالجة النفوس وإصلاح التشوهات الخلقية فيقول لأصحابه
وقد لعنوا رجلاً جيء به شاربا وتكرر مجيئه ليقام عليه حد الشرب :
" لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم ، لا تلعنوه فإنه
رجل يحب الله ورسوله..! "
وإذا نظرنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومواجهته لمن يأتي من
الخاطئين نجد رحمته الغامرة بمن يهوي به هواه ، حتى أنه ليقول :
" إن لكل نبي دعوة مستجابة ، وقد ادخرت دعوتي شفاعة لأهل
الكبائر من أمتي "
فإذا طبق الحد فهو تطهير للخاطئ وتطهير للمجتمع ومحاصرة للفاحشة
ورد الحقوق لأصحابها وصدق الحق تبارك وتعالى إذ يقول :
" ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون "..!!
فهذه الرحمة في جميع تشريعات الإسلام ناسبت قلب النبي صلى الله
عليه وسلم ومزاجه الذي مليء بالرحمة العامة الشاملة فقد كان رحيماً ببني
الإنسان جميعاً حتى أعداءه منهم وفيهم الذين آذوه وقاتلوه وضيقوا عليه
وأخرجوه وتنافسوا على إراقة دمه ، فحين تمكن بفضل الله من رقابهم
قال كلمة العفو :
" لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا فأنتم الطلقاء "
كما كان رحيماً بأعدائه المنافقين بالمدينة ، الذين ألبوا عليه وأضمروا له
العداء ، وحزبوا عليه الأحزاب ، وشنعوا عليه ورموا أزواجه أمهات
المؤمنين رضوان الله عليهم بكل نقيصة حتى برأه رب العزة سبحانه
من فوق سبع سماوات ، وقالوا في غزوة تبوك تحريضا عليه وتعريضا به
" لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ولله العزة ولرسوله
وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون "
ومع ذلك حينما توفي رأس المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول استجاب
النبي لرجاء ولده وأعطاه قميصه ليكفنه فيه واستغفر له وقام مصلياً عليه
فقام إليه عمر بن الخطاب يجذبه من ثوبه قائلا :
" أتصلى على رأس النفاق يا رسول الله ؟
فيقول : " دع عنك ثوبي يا عمر ، إن الله خيرني فاخترت ، قال : " استغفر
لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم
كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين " والله لو اعلم أنى
لو زدت على السبعين لغفر الله لهم لأزيدن على السبعين "
وظل على ذلك حتى نزل قول الله تعالى :
" ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ، انهم كفروا بالله
ورسوله وماتوا وهم فاسقون "…
وإذا كانت هذه هي رحمة النبي " صلى الله عليه وسلم " مع أعدائه
ومخالفيه والناقمين عليه المتربصين به ، فكيف تكون رحمته بمن آمن به
وصدقه وإنه ليقول :
" إن مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً جعل الجنادب والفراش يقعن فيها
وهو يذبهن عنها ، وإني آخذ بحجزكم عن النار وانتم تقحمون فيها "
ودعا فيما دعا وأوجب أن تقوم علائق أمته فيما بينها على الرحمة
والمودة والتعاطف استجلاباً لرحمة الخالق " سبحانه وتعالى " فإنه
عز وجل يرحم من عباده الرحماء ، والمؤمن في حاجته إلى رحمة
ربه أن يرحم غيره ، فإن هذه الرحمة المبذولة تكون طاعة لله
وعبادة يتقبلها الله منه ويجزيه عليها الجزيل .. وإن شيوع الرحمة
بين مجتمع المسلمين لكاف لإنزال غيث الرحمة الربانية الندية
التي لا تقف عند حد أو تصور ، حيث يقول رب العزة :
" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك
سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم "
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن رجلاً لم يعمل خيراً قط ، وكان
يداين الناس ، فكان إذا أرسل غلامه للتقاضي يقول له : خذ ما
تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا ، فلما هلك سأله
الله تعالى : هل عملت خيراً قط ؟! قال : لا إلا أنني كنت أداين
الناس فكنت أقول لغلامي :
خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا ، فقال الله له :
قد تجاوزت عنك "
فهذه العلاقة بين المؤمن والمؤمن يحرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم
لأنها تهب الجماعة المسلمة قوتها وصلابتها فلا تهون ولا تتفتت ولا تعبث
بها الفتن ، فيقول : صلى الله عليه وسلم :
" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا "
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :
" المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ، ومن كان في حاجة
أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا ، فرج
الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في
الدنيا والآخرة "..
فيا لها من رحمة ندية تظلل هامة الجماعة المؤمنة ، جاءت به
رسالة رحمة على يد رسول قال عن نفسه :
" إنما أنا رحمة مهداه ".. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق