المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إِدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق والأنس والرضا.. ولا قبل المحبة مقام إِلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد.. ["الإحياء" للإمام الغزالي كتاب المحبة والشوق ج13. ص2570].
والمحبة لا تُحدُّ بحد أوضح منها، والتعاريف والحدود لا تزيدها إِلا خفاءً، فتعريفها وُجودها ؛ إِذ التعاريف للعلوم. أما المحبة فهي حالة ذوقية تفيض على قلوب المحبين، ما لها سوى الذوق إِفشاء. وكل ما قيل في المحبة ما هو إِلا بيان لآثارها، وتعبير عن ثمارها، وتوضيح لأسبابها.
وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم المحبين بالمعية مع محبوبهم، فقد روى أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله ؟ قال: "ما أعددتَ لها ؟" قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله. قال: "أنت مع مَنْ أحببتَ". قال أنس: فقلنا ونحن كذلك ؟ قال: "نعم". ففرحنا بها فرحاً شديداً [رواه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب، ومسلم في صحيحه في كتاب البر عن أنس رضي الله عنه].الأسباب المورثة للمحبة:
ذكر العلماء من الأسباب المورثة للمحبة أموراً كثيرة، وأهمها عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إِلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإِنها توصل إِلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا التذكر.
الرابع: إِيثار محابِّه على محابِّك عند غلبة الهوى، والتسنُّمُ إِلى محابِّه وإِنْ صعب المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتُها ومعرفتها، وتقلبُه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبَّه لا محالة.
السادس: مشاهدة بره وإِحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإِنها داعية إِلى محبته.
السابع: انكسار القلب بكليته بين يديه تعالى تذللاً وتواضعاً.
الثامن: الخلوة به وقت التجلي الإِلهي لمناجاته لاسيما في الأسحار، وتلاوةُ كلامه، والوقوفُ بالقلب والتأدبُ بين يديه، ثم ختْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، كما ينتقي أطايب الثمر. ومن الأدب في مجالستهم ألاَّ تتكلم في حضرتهم إِلا إِذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمتَ أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل [انظر كتاب "مدارج السالكين" ص11ـ12].
فمن هذه الأسباب وغيرها وصل المحبون إِلى منازل المحبة.
علامات المحبة:
كثير من الناس من يدَّعي محبة الله ورسوله، وما أسهل دعوى اللسان. فلا ينبغي للإِنسان أن يغتَرَّ بخداع النفس، بل عليه أن يعلم أن للحب علامات تدل عليه، وثماراً تظهر في القلب واللسان والجوارح، فإِذا أراد ألاَّ يغش نفسه فلْيضعْها في موازين الحب، ولْيمتحْنها بعلاماته، وهي كثيرة، منها:
1ـ حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام، فلا يُتصور أن يحب القلب محبوباً إِلا ويحب مشاهدته ولقاءه، وإِذا علم أنه لا وصول إِلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت، فعليه أن يكون محباً للموت غير فارٌّ منه، لأن الموت مفتاح اللقاء. قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق، ومسلم في صحيحه في كتاب الذكر، باب من أحب لقاء الله]. ولهذا كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، يحبون الشهادة في سبيل الله، ويقولون حين يُدَعْون للمعركة: مرحباً بلقاء الله.
2ـ أن يكون مؤثِراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيلزم الطاعة، ويجتنب الكسل واتباع الهوى، ومَنْ أحبَّ الله لا يعصيه، ولذلك قال ابن المبارك رحمه الله تعالى:
تعصي الإِلهَ وأنتَ تُظهر حبَّه هذا لَعمري في القياس بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه إِنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
وفي هذا المعنى قيل أيضاً:
وأَتركُ ما أهوى لما قد هويتَه فأرضى بما ترضى وإِن سخطتْ نفسي
فطاعة الله تعالى ومحبته تستلزم اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال والأخلاق، قال تعالى: {قل إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّون الله فاتَّبِعوني يُحبِبْكُم اللهُ ويغْفِرْ لكم ذنوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
3ـ أن يكون مكثراً لذكر الله تعالى، لا يفتُرُ عنه لسانه، ولا يخلو عنه جنانه، فمَنْ أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره.
خيالُكَ في قلبي وذِكرُكَ في فمي ومثواكَ في قلبي فأين تُغيَّبُ
4ـ أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاتهِ لله تعالى وتلاوةِ كتابه، فيواظب على التهجد ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت، فأقل درجات المحبة التلذذُ بالخلوة بالحبيب، والتنعمُ بمناجاته.
5ـ أن لا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عز وجل، ويُعظمَ تَأسفَه على فوت كل ساعة خلتْ عن ذكر الله وطاعته، فيكثر رجوعه عند الغفلات، بالاستعطاف والتوبة.
6ـ أن يتنعم، ويتلذذ بالطاعة، ولا يستثقلها، ويسقطَ عنه تعبها.
7ـ أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله رحيماً بهم، شديداً على جميع أعداء الله، كما قال تعالى: {أشدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بينَهُم}
[الفتح: 29].
8ـ أن يكون في حبه خائفاً متفائلاً تحت الهيبة والتعظيم، وقد يُظن أن الخوف ينافي الحب، وليس كذلك، بل إِدراك العظمة يوجب الهيبة كما أن إِدراك الجمال يوجب الحب، وللمحبين مخاوف على حسب مراتبهم، كخوف الإِعراض وخوف الحجاب وخوف الإِبعاد. ولذا قال بعض المحبين:
الحبيب عرفته وأنا منه خائف لا يحبك إِلا من هو بك عارف
9ـ كتمان الحب، واجتناب الدعوى، والتوقي من إِظهار الوجد والمحبة تعظيماً للمحبوب وإِجلالاً له، وهيبة منه، وغَيْرة على سره، وبعض المحبين عجز عن الكتمان فقال:
يخفي فيبدي الدمعُ أسرارَه ويُظهر الوجد عليه النَّفَسُ
وبعضهم قال:
ومَنْ قلبه مع غيره كيف حاله ؟ ومَنْ سره في جفنه كيف يكتم ؟
10ـ الأنس بالله والرضا به. وعلامة الأنس بالله عدمُ الاستئناس بالخلق والتلذذُ بذكر الله، فإِن خالطهم فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة. قال علي كرم الله وجهه في وصف المحبين المستأنسين بالله: هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، واستلانوا بما استوعر المُتْرفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إِلى دينه [نظر كتاب المحبة والشوق من "إِحياء علوم الدين" للغزالي، و"الفتوحات المكية" لابن عربي].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق