السبت، 14 يونيو 2025

ح، ف 5

 وعجاجة بالنصب عطف على ما تقدم؛ أي ورأيت عجاجة، أو بالجر على إضمار رب، والعجاجة: الغبار، وتبسم — بحذف إحدى التاءين — أي تتبسم، والقذال: جماع مؤخر الرأس من الإنسان والفرس فوق فأس القفا، وقال ابن الأعرابي: القذال: ما دون القمحدوة إلى قصاص الشعر، قال الأزهري: القمحدوة ما أشرف على القفا من عظم الرأس، والهامة فوقها، والقذال دونها مما يلي المقذ، ويقال: القذالان ما اكتنف فأس القفا عن يمين وشمال، والزنج — بفتح الزاي وكسرها — جيل من السودان، وهم الزنوج، يقول: إن بريق الأسلحة في سواد الغبار يشبه تبسم الزنج أو شيب القذال، ولمحمود الوراق:

حَتَى تَبَدَّى الصُّبْحُ يَتْلُو الدُّجَى
 
كَالْحَبَشِيِّ افْتَرَّ لِلضَّحِك
ولأبي نواس:
لَمَا تَبَدَّى الصُّبْحُ مِنْ حِجَابِهِ
 
كَطَلْعَةِ الْأَشْمَطِ مِنْ جِلْبَابِهِ
وهذا التشبيه متداول كثير في الشعر.
(٣٢٠شبه بياض الحديد في ظلمة العجاجة بكواكب في ليل. يقول: كأن النهار ألبس بتلك العجاجة ظملة ليل، وكأن الرماح أطلعت من أسنتها كواكب، أو أطلعت هي كواكب في تلك الظلمة، فقوله: أطلعت إما قرأتها بصيغة المعلوم على أنه من فعل الرماح، وإما بصيغة المجهول لمشاكلة قوله كُسي، وهذا المعنى من قول صريع الغواني:
فِي عَسْكَرٍ شَرِقَ الْأَرْضُ الْفَضَاءُ بِهِ
 
كَاللَّيْلِ أَنْجُمُهُ الْقُضْبَانُ وَالْأَسَلُ
وقول بشار:
كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا
 
وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُه
(٣٢١عسكرت: تجمعت، وتكتبت: تجمعت كتائب، والكتائب: جمع كتيبة — الفرقة من الجيش — وعسكرًا وكتائب: حالان. يقول: إن المصائب تجمعت مع تلك العجاجة كأنها عسكر تقع بالعدو، وتكاثرت فيها رجال الممدوح حتى صارت كتائب.
(٣٢٢هذا مثل قول ابن الرومي:
كَأَنَّ أَبَاهُ حِينَ سَمَّاهُ صَاعِدًا
 
دَرَى كَيْفَ يَرْقَى فِي الْمَعَالِي وَيَصْعَدُ
وقوله علي: أراد عليًّا، فاضطره الوزن إلى حذف التنوين، وسوغ له ذلك سكونه وسكون اللام في الحاجب: ومثله كثير، وذلك كقراءة من قرأ: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ بغير تنوين، حذفه لالتقاء الساكنين.
(٣٢٣النضار: الذهب، ومواهبًا وما بعده: تمييز. يقول: إنه أفنى الذهب بالعطاء، والأعداء بالقتل، والزمان بالتجارب؛ أي إنه حصل له من التجارِب ما يعرف به ما يأتي فيما يستقبل من الزمان، فكأنه أفنى الزمان؛ لأنه لا يحدث عليه شيئًا لا يعرفه.
(٣٢٤ومخيب: عطف على «هذا الذي أفنى» في البيت قبله، وذكر الكف — وإن كان الأفصح تأنيثها — على معنى العضو، أو على إرادة السائل؛ أي لا يرد سائلًا، أو المراد خائبًا صاحبها، وبعد: فإن أكثر ما استعمل العرب الكف مؤنثة على أنها بمعنى اليد، فهم يقولون هذه كف واحدة، وقال بشر بن أبي خازم:
لَهُ كَفَّانِ كَفٌّ كَفُّ ضُرٍّ
 
وَكَفُّ فَوَاضِلٍ خَضِلٌ نَدَاهَا
وقال الأعشى:
يَدَاكَ يَدَا صِدْقٍ فَكَفُّ مُفِيدَةٍ
 
وَأُخْرَى إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
وقالت الخنساء:
فَمَا بَلَغَتْ كَفُّ امْرِئٍ مُتَنَاوِلٍ
 
بِهَا الْمَجْدَ إِلَّا حَيْثُ مَا نِلْتَ أَطْوَلُ
وَمَا بَلَغَ الْمُهْدُونَ نَحْوَك مِدْحَةً
 
وَإِنْ أَطْنَبُوا إِلَّا وَمَا فِيكَ أَفْضَلُ
أما قول الأعشى:
أَرَى رَجُلًا مِنْهُمْ أَسِيفًا كَأَنَّمَا
 
يَضُمُّ إِلَى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبَا
فإنه أراد العضو، وقيل هو حال من ضمير يضم، أو من هاء كشحيه.
(٣٢٥أبصرت — بتاء المتكلم — يعني المتنبي نفسه، ويروى على الخطاب، وحاضرًا وغائبًا على الروايتين: حال من فاعل أبصرت، ومثل: يجوز فيه الرفع والنصب، فالرفع قال ابن جني: هذا مبتدأ أول، والذي: مبتدأ ثانٍ، ومثل: خبر الذي، والجملة خبر هذا، والعائد على هذا من الجملة التي هي خبر عنه الهاء في منه، والنصب بجعل هذا ابتداء، والذي: خبره، ونصب مثل بأبصرت. يقول: إنه يرى عطاءه حيثما كان حضره أو غاب عنه، ومثله لأبي تمام:
شَهِدْتُ جَسيماتِ الْعُلَا وَهْوَ غَائِبُ
 
وَلَوْ كَانَ أَيْضًا حَاضِرًا كَانَ غَائِبَا
(٣٢٦الثاقب: المضيء. يقول: حيثما كنت ترى عطاءه قد غمر الناس — قريبهم وبعيدهم — كما ترى ضوء القمر حيثما كنت من البلاد، والبيتان التاليان في معنى هذا البيت: يريد أنه عام النفع، ومثل هذا لأبي تمام:
قَرِيبُ النَّدَى نَائِي الْمَحَلِّ كَأَنَّهُ
 
هِلَالٌ قَرِيبُ النُّورِ نَائِي مَنَازِلِهْ
وللبحتري:
كَالْبَدْرِ أَفْرَطَ فِي الْعُلُوِّ وَضَوْءُهُ
 
لِلْعُصْبَةِ السَّارِينَ جِدُّ قَرِيبِ
وله أيضًا:
عَطَاءٌ كَضَوْءِ الشَّمْسِ عَمَّ فَمَغْرِبٌ
 
يَكُونُ سَوَاءً فِي سَنَاهُ وَمَشْرِقُ
وقال العباس بن الأحنف:
نِعْمَةٌ كَالشَّمْسِ لَمَّا طَلَعَتْ
 
ثَبَتَ الْإِشْرَاقُ فِي كُلِّ بَلَد
(٣٢٧أمهجن؛ أي يا مهجن، فالهمزة للنداء، وهجنه: قبحه، قال صاحب اللسان: الهجنة من الكلام ما يعيبك، والهجين: العربي ابن الأمة لأنه معيب، ولهذه المناسبة نقول: إن الهجنة في الناس والخيل إنما تكون من قبل الأم، فإذا كان الأب عتيقًا والأم ليست كذلك؛ كان الولد هجينًا. قال الراجز:
الْعَبْدُ وَالْهَجِينُ وَالْفَلَنْقَسُ
 
ثَلَاثَةٌ فَأَيُّهُمْ تَلَمَّسُ
والأقراف: من قبل الأب، أو الذي أمه عتيقة وأبوه ليس كذلك. روى الرواة أن روح بن زنباع كان قد تزوج هند بنت النعمان بن بشير فقالت — وكانت شاعرة:
وَهَلْ هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ
 
سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَجَلَّلَهَا بَغْلُ
فَإِنْ نُتِجَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فَبِالْحَرَى
 
وَإِنْ يَكُ إِقْرَافٌ فَمِنْ قِبَلِ الْفَحْلِ
وأزرى به: عابه، قال في اللسان: الإزراء: التهاون بالشيء، يقال أزريت به: إذا قصرت به، وحقرته، وهونته، وزريت عليه، وزرى عليه زريًا، وزراية، ومزرية، ومزراة، وزريانًا: عابه وعاتبه. قال الشاعر:
يَا أَيُّهَا الزَّارِي عَلَى عُمَرٍ
 
قَدْ قُلْتَ فِيهِ غَيْرَ مَا تَعْلَمْ
وقال الآخر:
وَإِنِّي عَلَى لَيْلَى لَزَارٍ وَإِنَّنِي
 
عَلَى ذَاكَ فِيمَا بَيْنَنَا مُسْتَدِيمُهَا
أي عاتب ساخط غير راضٍ، وزرى عليه عمله: إذا عابه وعنفه، وتروك مبالغة في تارك، وهو مضاف لكل — الذي هو مفعوله الأول — وعاتبًا مفعول ثانٍ، ويروى عائبًا. يقول: إنك هجنت الكرماء لتقصيرهم عن بلوغ كرمك وتركتهم عاتبين عليك؛ لما يظهر من كرمك المزري بهم أو عاتبين بهم أو عاتبين على أنفسهم حيث لم يفعلوا ما فعلت، أو تركتهم عائبين لك حسدًا.
(٣٢٨شادوا: بنوا ورفعوا، وتشييد البناء: إحكامه ورفعه، والبناء المشيَّد — بالتشديد — المطول، أما المشيد فهو المبني بالشيد، والشيد كل ما طلي به الحائط من جص أو بلاط. قال عدي بن زيد:
شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلـْ
 
ـسًا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وَكُورُ
هذا ما عليه أكثر أهل اللغة، ومنهم من يجعل المشيد والمشيَّد بمعنى، ومما يتفرع عن هذه المادة قولهم: أشاد بذكره؛ أي نوه به ورفع قدره، وقال أبو عمرو: أشدت بالشيء: عرفته، والمناقب: المفاخر، والمثالب: المخازي والمعايب. يقول: لفضل مناقبك على مناقبهم صارت مناقبهم كالمثالب، وهذا كقول أبي تمام:
مَحَاسِنُ مِنْ مَجْدٍ مَتَى يَقْرِنُوا بِهَا
 
مَحَاسِنَ أَقْوَامٍ تَكُنْ كَالْمَعَايِبِ
(٣٢٩لبيك؛ أي إجابة لك بعد إجابة، ونصبه على المصدر، وغيظ الحاسدين: منادى، والراتب: الثابت المقيم، ونخبر: نشاهد ونعلم. قال الواحدي: أظهر الإجابة إشارة إلى أنه بنداء مناد؛ أي كأن الممدوح يناديه بلسان كرمه للتنويه به، وسماه غيظ الحاسدين إشارة إلى أنه قد بالغ في غيظهم حتى صار يُعرف بذلك. قال الخطيب: وصرع البيت لانتقاله من المدح إلى الإجابة.
(٣٣٠تدبير: مبتدأ محذوف الخبر؛ أي لك تدبير، وروي تدبير وهجوم: منصوبين، على أن تدبير بدل من عجائب — في البيت السابق — وهجوم: عطف عليه، وحنك: جمع حنكة، وهي الخبرة والتجربة، وضده الغر؛ أي الذي لم يجرب الأمور ولا يفكر في العواقب. يقول: إنك تدبر ملكك تدبير مجرب مختبر مفكر في العواقب، وإذا هجمت في الوغى هجمت هجوم الغر؛ أي إنك تفعل كلا في موضعه، فتدبر الملك تدبير مجرب بصير بأعقاب الأمور، وتقدم في الحرب إقدام الغر، وهذا من قول أبي تمام:
وَمُجَرَّبُونَ سَقَاهُمُ مِنْ بَأْسِهِ
 
فَإِذَا لُقُوا فَكَأَنَّهُمْ أَغْمَارُ
وقوله:
كَهْلُ الْأَنَاةِ فَتَى الشِّدَّاتِ إِذَا غَدَا
 
لِلْحَرْبِ كَانَ الْمَاجِدَ الْغِطْرِيفَا
وقال البحتري:
مَلِكٌ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَرِيهَةٌ
 
إِقْدَامُ غِرٍّ وَاعْتِزَامُ مُجَرِّبِ
(٣٣١وعطاء: عطف على تدبير، وعداه: تجاوزه. يقول: إذا لم يأتك طالب أنفقت مالك في البحث عن طالب تعطيه.
(٣٣٢أسطيعه: هو أستطيعه، وبهما جاء التنزيل الحكيم. يقول: إني إنما أثني عليك بقدر ما أستطيع، لا بقدر ما يجب لك وما تستحقه؛ لأنه فوق طاقتي، فاعذرني في ذلك، ثم بين عذره في البيت التالي، وقد قصر أبو الطيب الثناء في قوله ثناي — وهو ممدود — ضرورة. قال العكبري: حكى ابن سعد عن أبي الطيب — وهو علي بن سعد، وليس هو محمد بن سعد صاحب الطبقات؛ لأن ذلك قديم الوفاة. توفي بعد المائتين، وأبو الطيب ولد سنة ثلاث وثلاثمائة — قال: سمعت أبا الطيب يقول: ما قصرت ممدودًا في شعري إلا هذا الموضع: خذ من ثناي، وذلك أنه رأى بخط أبي الفتح — ابن جني:
وَقَدْ فَارَقْتَ دَارَكَ وَاصْطِفَاكَ
بكسر الطاء، هذا، وقد قال أهل اللغة: إن الثناء ما تصف به الإنسان من مدح أو ذم أي إنه يستعمل في الخير والشر، وأنشدوا:
أَثْنِي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فَإِنَّنِي
 
أُثْنِي عَلَيْكِ بِمِثْلِ رِيحِ الْجَوْرَبِ
وخص بعضهم به المدح.
(٣٣٣دهش: تحير، ومثله شده. قال صاحب اللسان: دهش دهشًا، فهو دهش ودهش فهو مدهوش، وكرهها بعضهم، وأدهشه الله وأدهشه الأمر، ودهش الرجل — بالكسر — دهشًا: تحير، ويقال: دهش وشده، واللغة العالية: دهش، على فعل، والملك الحفيظ: هو الموكل بالإنسان يكتب حسناته وسيئاته. يقول: لقد تحيرت أمام أفعالك فلا أقدر أن أحصيها وأثني بها، وأقل من ذلك ما يحير الملك الموكل بك؛ لأنه لم ير مثله من غيرك، ولأنه لكثرته يعجز عن كتابته.
(٣٣٤يقول: هو نفاع ضرار، مثله في ذلك مثل السحاب الذي ينهل بالمطر وتنقض منه الصواعق، ففيه حياة لقوم، وهلاك لآخرين. قال الواحدي: هذه الأبيات مضطربة الوزن، وهي من الرمل، وذلك لأنه جعل العروض فاعلاتن، وهو في الأصل في الدائرة، ولكن لم يستعمل العروض ها هنا إلا محذوفة السبب على وزن فاعلن كقول عبيد:
مِثْلَ سَحْقِ الْبُرْدِ عَفَّ بَعْدَكِ الـْ
 
ـقَطْرُ مَغْنَاهُ وَتَأْوِيبُ الشَّمَالِ
(السحق: الثوب الخلق الذي انسحق وبلي؛ كأنه بعد من الانتفاع به.)
غير أن هذا البيت الأول صحيح الوزن؛ لأنه مصرع، فتبعت عروضه ضربه.
(٣٣٥جعله هذه الأشياء مبالغة؛ لكثرة وقوعها منه حتى صار وإياها كالشيء الواحد، على حد قول الخنساء:
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ
 
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
تصف الخنساء وحشية تطلب ولدها مقبلة ومدبرة، فجعلها إقبالًا وإدبارًا لكثرتهما منها.
(٣٣٦الطرف — بفتح الطاء — العين، والجهد — بالضم — الطاقة، أما بالفتح فهو المشقة، وقيل هما لغتان: كالشهد والشهد، والأيدي: فاعل حمدته. يقول: إنه لا يجيل طرفه إلا على إحسان وإساءة، فله في كل طرفة ونظرة إحسان تحمده الأيدي جهدها؛ لأنه يملؤها بالعطاء، وذهب اليازجي إلى أن الطرف — بكسر الطاء — أي الفرس الكريم. قال: يقول المتنبي: إنه ما أجال فرسه في الحرب إلا ملأ أيدي أوليائه من الغنائم فحمدته جهدها، وضرب رقاب أعدائه فذمته …
(٣٣٧يقول: لا يقتل أعاديه ليستريح منهم؛ لأنه أمن جانبهم لعجزهم عن أذاه فلا يهمه بقاؤهم، ولكنه قد عود الذئاب أن يطعمها لحوم القتلى، فهو إنما هو يقتل الأعداء خشية أن يخلف رجاء الذئاب، وهو لم يتعود أن يخيب راجيًا، وهذا كقول مسلم:
قَدْ عَوَّدَ الطَّيْرَ عَادَاتٍ وَثِقْنَ بِهَا
 
فَهُنَّ يَتْبَعْنَهُ فِي كُلِّ مُرْتَحَلِ
(٣٣٨يقول: إنه مهيب كل الهيبة، وجواد غاية في الجود، فإنه يهاب هيبة من لا يرجى العفو عنده، ويجود جود سمح كريم يرجى إحسانه ولا تخشى مهابته.
(٣٣٩الطعن الشزر: ما كان عن يمين وشمال، والعجاج: الغبار، والنقاب: ما تستر به المرأة وجهها. يصفه بالحذق في الطعن. يقول: إنه يصيب أحداق الفرسان والجو مظلم بغبار الحرب الذي كأنه نقاب للشمس يسترها، وهذا كقوله:
يَضَعُ السِّنَانَ بِحَيْثُ شَاءَ مُحَاوِلا
(٣٤٠يقول: إن يحمل نفسه على ركوب الأمر العظيم الهائل الذي لا خلاص لمن وقع فيه.
(٣٤١بأبي: تفدية. قال الواحدي: يريد أن ريحه أطيب من ريح النرجس «الذي بين يديه» وحديثه ألذ من الشراب، وليس هذا مما يمدح به الرجال؛ أي وإنما يخاطب بمثله المحبوب.
(٣٤٢برز: بذ وسبق، وسبقًا: مفعول مطلق، كأنه قال إن سبقت سبقًا، والعراب: الخيل العربية. يقول: ليس بمستنكر أن تسبق الناس وتبذهم؛ لأنك أهل ذلك، كما أن كرام الخيل لا تدفع عن السبق. هذا وكان الوجه أن يقال غير مدفوعة عن السبق العراب، كما تقول هند غير مصروفة، ولكنه ذكر ضرورة كأنه أراد العراب جنس غير مدفوع. قال ابن جني: كان يجوز له أن يقول غير هذا، ويقول: لا تدفع عن السبق العراب — بالتاء والياء — فأجرى غير مجرى لا، وأجرى مدفوع مجرى يدفع ضرورة، وقد يتزن البيت بأن يقول:
غَيْرُ مُدفُوعٍ عَنِ السَّبقِ العِراب
أقول: وأين قط لا يدفع عن سبق عراب من غير مدفوع عن السبق العراب؟ ولكنه النحو والنحويون.
هذا، وقد قال أبو حيان في تذكرته: إن هذا البيت في الإعراب نظير بيت أبي نواس:
غَيْر مَأَسُوفٍ على زَمَنٍ
 
يَنْقَضِي بِالْهَمِّ وَالحَزَنِ
قال ابن حيان: ﻓ «العراب» مرفوع بمدفوع، ومن جعله مبتدأ فقد أخطأ؛ لأنه يصير التقدير، العراب غير مدفوع عن السبق، والعراب جمع فلا أقل من أن يقول: غير مدفوعة؛ لأن خبر المبتدأ لا يتغير تذكيره وتأنيثه بتقديمه وتأخيره. وإليك آراء النحاة في إعراب غير، قال ابن هشام في «المغني»: فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن غير مبتدأ لا خبر له بل لما أضيف إليه (لما: بكسر اللام وتخفيف الميم، أي بل للاسم الذي أضيف إليه غير مرفوع وهو على زمن؛ لأنه نائب فاعل مأسوف، والمضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد.) مرفوع يغني عن الخبر؛ وذلك لأنه في معنى النفي، والوصف بعده مخفوض لفظًا وهو في قوة المرفوع بالابتداء، فكأنه قيل: ما مأسوف على زمن ينقضي مصاحب للهم والحزن، فهو نظير: ما مضروب الزيدان، والنائب عن الفاعل الظرف، قاله ابن الشجري وتبعه ابن مالك. والثاني: أن غير خبر مقدم والأصل زمن ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه، ثم قدمت غير وما بعدها، ثم حذف زمن دون صفته فعاد الضمير المجرور بعلى على غير مذكور فأتى بالاسم الظاهر مكانه، قاله ابن جني وتبعه ابن الحاجب. فإن قيل: فيه حذف الموصوف مع أن الصفة غير مفردة وهو في مثل هذا ممتنع. قلنا: في النثر، وهذا شعر فيجوز فيه، كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
أي أنا ابن رجل جلا الأمور. وقوله:
تَرْمِي بِكَفَّيْ كانَ مِنْ أرْمِي البَشَرْ
أي بكفي رجل كان، والثالث: أنه خبر لمحذوف، ومأسوف مصدر جاء على مفعول كالمعسور والميسور والمراد به اسم الفاعل، والمعنى: أنا غير آسفٍ على زمن هذه صفته، قاله ابن الخشاب، وهو ظاهر التعسف.
(٣٤٣تشكَّى — بحذف إحدى التاءين — أي تتشكى، وإليه: متعلق بتشكَّى، والضمير في غيبته وفي إليه: للسحاب، والرشف: المص، وأصله أن تستقصي ما في الإناء حتى لا تدع فيه شيئًا، والرضاب: الريق. يريد بيان ما ذكره في البيت السابق من العجائب. يقول: إن الأرض بعطشها تشكو إلى السحاب غيبته عنها، وعند لقائه ترشف ماءه كما يرشف العاشق ريق المعشوق.
(٣٤٤يقول: إني إنما أتأمل في محاسنك لا في الشطرنج، وأنتصب جالسًا لأراك لا لأراه، والشطرنج فارسي معرب من شدرنج، ومعناه — كما قال العكبري — من اشتغل به ذهب عناؤه باطلًا، وكسر الشين فيه أجود؛ ليكون من باب جردحل: وهو الضخم من الإبل: هذا وقد قال ابن جني: إن هذه الأبيات لم أقرأها عليه، وشعره عندي أجود منها، وقال غيره هي مقروءة عليه بمصر وبغداد.
(٣٤٥يقول: إنني سأمضي وأغيب عنك ليلة واحدة، ثم أعود إليك.
(٣٤٦بكل معجزة؛ أي بكل مسألة يعجز الناس عن بيانها والإجابة عليها، فلو سئل عنها غيره أجبل «انقطع» قال العكبري: هذه أبيات رديئة عملها ارتجالًا في معانٍ ليست هناك.
(٣٤٧الضروب: الشكول والأصناف، وأشفهم: أفضلهم. يقول: شكول الناس على اختلافهم يحبون شكول المحبوبات على اختلافها، وأحقهم بأن يعذر في العشق والحب من كان محبوبه أفضل، وهذا كالتمهيد للبيت التالي. هذا، وقد ذهب بعض الشراح إلى أن ضروبًا؛ حال، كأنه قال: الناس عشاق مختلفين في عشقهم، ولكن الأجود أن يكون منصوبًا بوقوع الفعل عليه وهو العشق: أي ضروب الناس يعشقون ضروبًا.
(٣٤٨السكن: ما تسكن نفسك إليه وتهواه. يقول: فالذي أحبه أنا وتسكن إليه نفسي هو قتل أعدائي، فهل من زيارة لهذا الحبيب؟ أي هل أظفر بذلك وأتمكن منه حتى أشفي قلبي كما يشفي قلب المحب زورته الحبيب؟
(٣٤٩ترد؛ أي تردد: والصراصر: جمع صرصرة، وهو صوت النسر والبازي ونحوهما، والنعيب: صوت الغراب. يقول: هل من سبيل إلى وقعة تكثر فيها القتلى فيجتمع عليها الطير فيصرصر النسر وينعب الغراب؟ جعل صياح الطيور المجتمعة على القتلى كأنه حديث يتحدثن به.
(٣٥٠وقد لبست؛ أي الطير، وعليهم: متعلق بحدادًا، والحداد: الثياب السود تلبس عند المصيبة، والجيوب: جمع جيب، وهو طوق القميص، وعند العامة: كيس يخاط في جانب الثوب من الداخل ويجعل فمه من الخارج. يقول: إن هذه الطير تغوص في دماء القتلى فتتلطخ بها، وتجف عليها فتسود وتصير كأنها ثياب حداد على القتلى. بيد أنها لم تشق على هؤلاء القتلى جيوبًا كما تفعل ربات الحداد. هذا، وقد روي: دماؤهم — بالرفع — فيكون المعنى أن الدماء اسودت على القتلى، فكأنما لبست ثوبًا غير ما كانت تلبس من الحمرة.
(٣٥١الكعوب: جمع كعب، وهو ما بين الأنبوبتين من القناة. يقول: لم نزل نطعنهم حتى كسرنا كعوب الرماح فيهم فاختلطت في أبدانهم بعظامهم.
(٣٥٢القحوف: جمع قحف — بكسر القاف — وهو العظم الذي فوق الدماغ؛ والجمجمة: العظم الذي فيه الدماغ، والتريب: عظم الصدر، والجمع: الترائب: موضع القلادة من الصدر. يقول: كأن خيلنا كانت في صغرها تسقى اللبن في أقحاف رءوسهم فألفتهم حتى صارت تدوس جماجمهم وصدورهم ونحن عليها لا تنفر منهم … وقد جرت عادة العرب أن تسقي اللبن كرام خيولها.
(٣٥٣القحوف: جمع قحف — بكسر القاف — وهو العظم الذي فوق الدماغ؛ والجمجمة: العظم الذي فيه الدماغ، والتريب: عظم الصدر، والجمع: الترائب: موضع القلادة من الصدر. يقول: كأن خيلنا كانت في صغرها تسقى اللبن في أقحاف رءوسهم فألفتهم حتى صارت تدوس جماجمهم وصدورهم ونحن عليها لا تنفر منهم … وقد جرت عادة العرب أن تسقي اللبن كرام خيولها.
(٣٥٤الشوى من الخيل: قوائمها. يقال: فرس عبل الشوى، والشوى من الآدميين: اليدان والرجلان، وقيل: اليدان والرجلان والرأس، وكل ما ليس مقتلًا، ومن هذا قولهم: رماه فأشواه؛ أي أصاب شواه، ولم يصب مقتله، قال الهذلي:
فَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ الَّتِي لَا شَوَى لَهَا
 
إِذَا زَلَّ عَنْ ظَهْرِ اللِّسَانِ انْفِلَاتُهَا
أي إن من القول كلمة لا تشوي ولكن تقتل.
وقال الفراء في قوله تعالى: كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ: الشوى اليدان والرجلان وأطراف الأصابع وقحف الرأس، ويقال لجلدة الرأس شواة، وقد توسعوا في الشوى فاستعملوه في كل من أخطأ غرضًا وإن لم يكن له شوى ولا مقتل، وقد رويت خُضبت — بالبناء للمعلوم، والضمير للخيل — يقول: إن هذه الخيل يقدمها إلى الحرب — وقد خضبت قوائمها بالدم — فتى قد طال تمرسه بالحروب — يعني نفسه — فكلما فرغ من حرب، خاض حربًا أخرى.
(٣٥٥الخنزوانة في الأصل: ذبابة تطير في أنف البعير فيشمخ لها بأنفه، واستعيرت للكبر، وتنمر: صار كالنمر غضبًا، وقوله أصاب؛ أي أأصاب — بهمزة التسوية — يقول: إذا غضب على أعدائه وقاتلهم لا يبالي أقتلهم أم قتلوه.
(٣٥٦الهمزة في أعزمي: للنداء، ويفرق: يخاف، ويئوب: يرجع. يقول — مخاطبًا عزمه: انظر يا عزمي هل علم الصبح بما أنا عازم عليه من الاقتحام فتأخر خشية أن يصاب في جملة أعدائي؟ وعبارة ابن فورجه: أراد: لعظم ما عزمت عليه ولشدة ما أنا عليه من الأمر الذي قمت به، كأن الصبح يفرق من عزمي، ويخشى أن يصيبه بمكروه، فهو يتأخر ولا يئوب.
(٣٥٧الحب: المحبوب، ويراعي: يراقب وينتظر، والدجنة الظلمة، والدجنة من الغيم المطبق تطبيقًا والريان المظلم الذي ليس فيه مطر، يقال: يوم دجن ويوم دجنة — وكذلك الليلة على وجهين بالوصف والإضافة — والدجنة: الظلمة جمعها دجن ودجنات، والداجنة: المطرة المطبقة نحو: الديمة، والضمير في دجنته: لليل. شبه الفجر بحبيب قد طلب إليه زيارة محبه وهو يراعي من ظلمة الليل رقيبًا فتتأخر زيارته خوف الرقيب — يريد طول الليل، وأن الفجر ليس يطلع، فكأنه حبيب يخاف رقيبًا.
(٣٥٨الجبوب: وجه الأرض ومتنها، من سهل أو حزن أو جبل، وقيل: الأرض الغليظة، وقيل: الأرض الغليظة من الصخر لا من الطين، ولا يجمع، والحلي: ما تزين به من الذهب والفضة وغيرهما، وجمعها حلي: مثل ثدي وثدي، وقد تكسر الحاء لمكان الياء مثل عصى. قال الفارسي: وقد يجوز أن يكون الحلي جمعًا وتكون الواحدة حلية كهدية وهدي، وحذيت قوائمه الجبوب؛ أي جعل الجبوب حذاء لقوائمه. يقول: كأن النجوم حلي على الليل فليست تفارقه، وكأن الأرض قد جعلت حذاء له فلا يستطيع أن يمشي؛ لثقل الأرض على قوائمه.
(٣٥٩الشحوب: تغير اللون من هزال ونحوه، والضمير من سواده لليل، ومن فيه: للجو. يقول: كأن الجو كابد ما أكابد من طول الوجد فاسود لون الليل وصار سواده شحوبًا؛ أي كأن الليل اسود؛ لأنه دفع إلى ما دفعت إليه فصار السواد بمنزلة الشحوب.
(٣٦٠الدجى: جمع دجية، وهي الظلمة، والسهاد: السهر. يقول: إن سهاده يطول والليل يطول معه، فكأن سهاده يجذب ظلمة الليل، فهي لا تنقضي إلا بانقضائه، وسهاده لا ينقضي، وكذلك ظلمة الليل.
(٣٦١يقول: إني أقلب أجفاني في ذلك الليل، ولكثرة تقليبي إياها كأني أعد على الدهر ذنوبه، فكما أن ذنوب الدهر كثيرة متوافرة لا تكاد تفنى. كذلك تقليبي أجفاني كثير لا يفنى، فلا نوم هناك، ولك أن تقول: أقلب أجفاني في ذلك الليل وأنا أرعى نجومه كأني أعد بها ذنوب الدهر التي هي مثلها في العدد، وهذا المعنى ينظر إلى قول ديك الجن:
أَنَا أُحْصِي فِيكَ النُّجُومَ وَلَكِنْ
 
لِذُنُوبِ الزَّمَانِ لَسْتُ بِمُحْصٍ
(٣٦٢بلحظ حسادي؛ أي بلحظي حسادي، يقول: ليس ليلي وإن طال بأطول من نهار يشوبه — أي يخالطه — أن أنظر فيه إلى حسادي وأعدائي.
(٣٦٣يقول: إذا كان لحسادي نصيب معي في الحياة وشاركوني فيها وعاشوا كما أعيش فليس الموت بأبغض إليَّ من تلك الحياة؛ أي إنه لا تحلو له الحياة حتى يقتل حساده.
(٣٦٤الحدثان: حوادث الدهر ونوبه، ويقال: انتسب الرجل إلى فلان: إذا نسب نفسه إليه، والنقيب: الخبير بأحوال القوم وأنسابهم. يقول: لكثرة ما أصابني من نوائب الدهر صرت عارفًا بها حتى لو كان لها أنساب لكنت أنا نقيبها.
(٣٦٥يقول: لما أعوزتنا الإبل وفقدناها لقلة ذات اليد أدتني المحن والشدائد إلى الممدوح، فكأنها كانت مطايا ركبناها إليه.
(٣٦٦رتعت الإبل: رعت في بحبوحة وخصب، والجدب: ضد الخصب، ومكان جديب: لا نبات فيه. يقول: إن الخطوب مطايا لا يبغي أحد ركوبها، وهي لا ترعى نبات الأرض، إنما ترعانا وتنال منا. فما فارقتها عند وصولي إليك إلا جديبا؛ لأنها رعتني وأتت عليَّ فلم تترك مني شيئًا.
(٣٦٧رتعت الإبل: رعت في بحبوحة وخصب، والجدب: ضد الخصب، ومكان جديب: لا نبات فيه. يقول: إن الخطوب مطايا لا يبغي أحد ركوبها، وهي لا ترعى نبات الأرض، إنما ترعانا وتنال منا. فما فارقتها عند وصولي إليك إلا جديبا؛ لأنها رعتني وأتت عليَّ فلم تترك مني شيئًا.
(٣٦٨الشيمة: الخلق، وتقول: شعفتني حبًّا وشغفتني، والمعنى تيمتني وبلغت مني، وشغفتني: من شغاف القلب، وهو غلافه، أو سويداؤه، والنسيب: التشبيب بالنساء في الشعر. يقول: إن أخلاق الممدوح شغفتني بحسنها. فلولا مهابته واحتشامه لتغزلت بها كما يتغزل العاشق بمعشوقه.
(٣٦٩الضمير في هواها: للشيمة، والرشأ: ولد الظبية إذا تحرك ومشى، والربيب: المربى. يقول: إن كل نفس تعشق أخلاقه كما أعشقها أنا. فهي محبوبة إلى كل إنسان، وإن لم يكن بينها وبين الرشأ شبه؛ لأنها من الرجولة والفضل بحيث تسمو عن شبهها بالظباء التي تشبه بها الحسان.
(٣٧٠عجيب: خبر مبتدأ محذوف يعود إلى الممدوح، وعجيبًا: خبر ما العاملة عمل ليس. يقول: هو عجيب في الزمان، وليس ما يأتي من آل سيار عجيبًا؛ لأنهم الغاية في المجد والكرم.
(٣٧١وليس شيخًا … إلخ؛ أي ليس كل من بلغ المشيب يسمى شيخًا؛ فشيخًا: مفعول ثانٍ مقدم ليسمى، وكل: يجوز أن يكون اسم ليس، أو نائب فاعل يسمى على طريق التنازع. يقول: هو مع أنه شاب؛ في حنكة الشيوخ وجودة رأيهم ورجحان ألبابهم، ورب إنسان غيره بلغ المشيب، ولكنه لا يستحق أن يسمى شيخًا؛ لتخلفه ونقصه.
(٣٧٢قوله من قواه: يروى من يديه. يقول: قسا قلبه في الحروب حتى لتخاف الأسد بطشه وسطوته، وهو مع ذلك في مجلسه قد رق طبعًا وكرمًا حتى لنخاف أن يذوب، ويقال فلان يذوب ظرفًا: إذا لان جانبه، واحلولت شيمته.
(٣٧٣الهوج: جمع هوجاء: وهي الشديدة العصف في حمق وطيش، والبطش: الأخذ بقوة، والندى: الجود: بطشًا وهبوبًا: نصبا على التمييز، وقال آخرون: هما مصدران وقعا موقع الحال. يقول: هو لدى الوغى أشد بطشًا من هوج الرياح، ولدى الجود أسرع منها في العطاء.
(٣٧٤الغرض: الهدف يرمى بالسهام. يقول: إن الناس يقولون: إنه أرمى من رأيناه يرمي السهام، فقلت: إنكم رأيتموه وهو يرمي الغرض القريب منه. فكيف لو رأيتموه يرمي الغرض البعيد؟
(٣٧٥الرمايا: جمع رمية، اسم لكل ما يرمى بالسهم من غرض أو صيد. يقول: إنه صائب الفكرة فهو يرمي المغيبات بسهام ظنه فيصيبها لثقوب فكره، فكيف لا يصيب المحسات بسهامه؟
(٣٧٦الكنانة: الجعبة التي توضع فيها السهام، ونكبت: قلبت على رأسها لينثر ما فيها، واستبنا: تبينا ورأينا: والندوب في الأصل: آثار الجروح؛ والمراد هنا مطلق الأثر، والأفواق؛ جمع فوق، وهو موضع الوتر من السهم، يقول: إذا نثرت كنانته وأفرغ ما فيها من السهام رأينا لنصوله آثارًا في نصوله لسرعة رميه، ورميه إياها على طريقة واحدة حتى يدرك بعضها بعضًا من غير أن يميل عنه، ويصيب اللاحق منها فوق السابق، فلولا أن ينكسر النصل بالفوق؛ لاتصل بعضها ببعض، وصارت مستوية كالقضيب، وكان الوجه أن يقول: بأفوقها لأنصلها ندوبًا بدليل البيت الثاني، ولأن النصال إذ ذاك لا تتقابل، اللهم إلا إذا كان يريد بالأنصل: السهام، لا الحديد بخصوصه.
(٣٧٧الكنانة: الجعبة التي توضع فيها السهام، ونكبت: قلبت على رأسها لينثر ما فيها، واستبنا: تبينا ورأينا: والندوب في الأصل: آثار الجروح؛ والمراد هنا مطلق الأثر، والأفواق؛ جمع فوق، وهو موضع الوتر من السهم، يقول: إذا نثرت كنانته وأفرغ ما فيها من السهام رأينا لنصوله آثارًا في نصوله لسرعة رميه، ورميه إياها على طريقة واحدة حتى يدرك بعضها بعضًا من غير أن يميل عنه، ويصيب اللاحق منها فوق السابق، فلولا أن ينكسر النصل بالفوق؛ لاتصل بعضها ببعض، وصارت مستوية كالقضيب، وكان الوجه أن يقول: بأفوقها لأنصلها ندوبًا بدليل البيت الثاني، ولأن النصال إذ ذاك لا تتقابل، اللهم إلا إذا كان يريد بالأنصل: السهام، لا الحديد بخصوصه.
(٣٧٨بكل مقوم: بدل من قوله ببعضها؛ أي يصيب بكل سهم هذه صفته. يقول: إن سهمه يتجه كيف شاء، فكأنه عاقل يأمره فيطيع.
(٣٧٩النزع: جذب الوتر للرمي، وضمير منه: للسهم، والرمي المرمى، فهو فعيل بمعنى مفعول، والهدف: بدل من رميه. يقول: إذا جذب الوتر ورمى السهم رأيت منه نارًا بين القوس والهدف، وذلك أن حفيف السهم في سرعة مروره يشبه حفيف النار في التهابها، والعرب إذا وصفت شيئًا بالسرعة شبهته بالنار، ومنه قول العجاج يصف سرعة مشي الحمار والأتان:
كَأَنَّمَا يَسْتَضْرِمَانِ الْعَرْفَجَا
(العرفج شجر معروف سريع الاشتعال بالنار، ولهبه شديد الحمرة، ويبالغ بحمرته فيقال: كأن لحيته ضرام عرفجة.)
(٣٨٠الأولى بمعنى الذين: والاستفهام للتقرير أي أَنت ابن أولئك، وسعدوا؛ من السعادة، والنجيب: الكريم.
(٣٨١يقول: وأنت ابن الذين أدركوا بحزمهم ما طلبوا في رفق وأناة وتؤدة، فأدركوا الصعب البعيد بأهون سبب، ودُون جهد ونصب، وجعل الوحش مثلًا للمطلوب البعيد، ودبيب النمل مثلًا لرفقهم ولطف تأنيهم.
(٣٨٢يقول: إن الطيب الذي يتضوع من الرياض ليس لها في الحقيقة، ولكنه شيء أفادته من دفن آبائه في التراب، وهذا من قول أبي تمام:
أَرَادُوا لِيُخْفُوا قَبْرَهُ عَنْ عَدُوِّهِ
 
فَطِيبُ تُرَابِ الْقَبْرِ دَلَّ عَلَى الْقَبْرِ
(٣٨٣الضمير في زمانه: للمجد، والقشيب: الجديد، قال ابن جني: معناه أن روح المجد انتقل إليه فصار هو المجد مبالغة، وقال غيره: إن روح مجد آبائه انبعثت فيه فعاد إلى عالم الظهور، وتجدد زمانه بعد انقضائه، وقال آخرون: معناه يا من عاد به روح المجد في المجد؛ أي إن المجد كان ميتًا فعاد به حيًّا، وعاد الزمان الذي كان باليًا جديدًا به، وقد نظر إلى هذا المعنى بعضهم فقال:
سَأَلْتُ النَّدَى وَالْمَجْدَ حَيَّانِ أَنْتُمَا
 
وَهَلْ عِشْتُمَا مِنْ بَعْدِ آلِ مُحَمَّدِ
فَقَالَا نَعَمْ مِتْنَا جَمِيعًا وَضَمَّنَا
 
ضَرِيحٌ وَأَحْيَانًا دَبِيسُ بْنُ مِزْيَدِ
(٣٨٤تيممني: قصدني، قال الواحدي: سمعت الشيخ أبا المجد كريم بن الفضل — رحمه الله — قال: سمعت والدي أبا بشر قاضي القضاة يقول: أخبرني أبو الحسين الشامي الملقب بالمشوق قال: كنت عند المتنبي فجاءه هذا الوكيل فأنشده هذه الأبيات:
فُؤَادِي قَدِ انْصَدَعْ
 
وَضَرْسِي قَدِ انْقَلَعْ
وَلِلَّيَالِي عَقْلِي
 
قَدِ انْهَوَى وَمَا رَجَعْ
يَا حُبَّ ظَبْيٍ غَنجٍ
 
كَالْبَدْرِ لَمَّا أَنْ طَلَعْ
رَأَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ
 
مِنْ كُوَّةٍ قَدِ اطَّلَعْ
فَقُلْتُ ته ته ته وته
 
فَقَالَ لِي مُرْ يَا لُكَعْ
هَاتِ قِطَعْ ثُمَّ قِطَعْ
 
ثُمَّ قِطَعْ ثُمَّ قِطَعْ
وَضَعْ بِكَفَّيَّ وَفِي
 
جَيْبِي أَدَعْكَ أَنْ تَضَعْ
فهذا الذي عناه المتنبي بقوله: وأنشدني من الشعر الغريبا.
(٣٨٥آجره الله: أثابه؛ جعل نفسه كالمسيح، وهذا الشاعر كعليل قد جاء ليداوي المسيح الذي يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، وإذن فلا حاجة به إلى طبيب، ولا سيما إذا كان الطبيب عليلا.
(٣٨٦جعله شمسًا لشرفه وعموم منفعته، يدعو له بأن لا تزال دياره مشرقات بنوره، وبأن لا يشرف على الغروب؛ أي لا يموت.
(٣٨٧لأصبح: تعليل للدعاء السابق. يقول: أنا آمن عليك من العيوب فإنها لا تقربك، ولكن الذي أخشاه أن نرزأ فيك، فأنا أدعو الله أن يقيك الرزايا لأصبح آمنًا فيك المحذورين معًا.
(٣٨٨يقول: إن هذين المجلسين — وإن كان قد ميز كل منهما في وضعه عن الآخر — مقابلان بعضهما لبعض ولكنهما أحسنا الأدب فتميزا، فإنك إذا صعدت إلى أحدهما فجلست عليه مال الآخر عنه هيبة لك.
(٣٨٩يقول: إن هذين المجلسين — وإن كان قد ميز كل منهما في وضعه عن الآخر — مقابلان بعضهما لبعض ولكنهما أحسنا الأدب فتميزا، فإنك إذا صعدت إلى أحدهما فجلست عليه مال الآخر عنه هيبة لك.
(٣٩٠يقول: إذا كان ما لا حس له ولا عقل يهابك فما الظن بغيره؟
(٣٩١قفلنا: رجعنا، وإليك: بمعنى اكفف، وشم: أمر من شام البرق إذا نظر إليه يرجو المطر، وتقول عزم فلان الأمر وعزم عليه إذا هم به، وقوله فشم … البيت؛ يأمر السحاب بأن ينظر إلى الأمير يرجو مطره كما ترجو الناس من السحاب مبالغة في جود الأمير حتى صار السحاب مفتقرًا إلى سقياه، ثم قال: إنه لما قال ذلك للسحاب أمسك عن الانسكاب بعد أن همَّ به حياء من جوده.
(٣٩٢قفلنا: رجعنا، وإليك: بمعنى اكفف، وشم: أمر من شام البرق إذا نظر إليه يرجو المطر، وتقول عزم فلان الأمر وعزم عليه إذا هم به، وقوله فشم … البيت؛ يأمر السحاب بأن ينظر إلى الأمير يرجو مطره كما ترجو الناس من السحاب مبالغة في جود الأمير حتى صار السحاب مفتقرًا إلى سقياه، ثم قال: إنه لما قال ذلك للسحاب أمسك عن الانسكاب بعد أن همَّ به حياء من جوده.
(٣٩٣ضمير به للأمير، والخطاب في بكم لطاهر العلوي، وهو من نسل الزهراء كريمة سيدنا رسول الله  ومن ثم قال: كما بكم يغفر الذنوبا.
(٣٩٤التصغير في ما أحيسنها: مبالغة في الاستحسان، وقوله لم أعجب؛ أي لم أقل ما أحسينها؛ أي لولا حسنها لم أقل ذلك.
(٣٩٥خلوقية: نسبة إلى الخلوق ضرب من الطيب أصفر اللون، وفي خلوقيها: خبر مقدم، وسويداء: مبتدأ مؤخر. يقول: هذه المقلة صفراء مثل لون الخلوق يتوسط صفرتها إنسان — إنسان عين — أسود كأنه الحبة الصغيرة من عنب الثعلب.
(٣٩٦يقول: إذا التفت الباز إلى جانبه اكتسى من نور مقلته شعاعًا.
(٣٩٧قالوا: إن الأمير أبا محمد بن طغج لم يزل يسأل المتنبي أن يخص أبا القاسم طاهرًا العلوي بقصيدة من شعره، وأنه قد اشتهى ذلك، وأبو الطيب يقول: ما قصدت إلا الأمير ولا أمدح سواه؛ فقال أبو محمد: عزمت أن أسألك قصيدة تنظمها فيَّ فاجعلها فيه، وضمن له عنده مئات من الدنانير فأجاب. قال محمد بن القاسم الصوفي: فسرت أنا والمطلبي برسالة طاهر إلى أبي الطيب فركب معنا حتى دخلنا عليه وعنده جماعة من الأشراف، فلما أقبل أبو الطيب، نزل طاهر عن سريره والتقاه مسلمًا عليه؛ ثم أخذه بيده فأجلسه في المرتبة التي كان فيها، وجلس هو بين يديه وتحدث معه طويلًا. ثم أنشده أبو الطيب فخلع عليه — للوقت — خلعًا نفيسة. قال علي بن القاسم الكاتب: كنت حاضرًا هذا المجلس، فما رأيت ولا سمعت أن شاعرًا جلس الممدوح بين يديه مستمعًا لمدحه غير أبي الطيب؛ فإني رأيت هذا الشريف قد أجلسه في مجلسه وجلس بين يديه فأنشده هذه القصيدة.
(٣٩٨الكواعب: جمع كاعب، وهي التي بدا ثدياها للنهود، والحبائب: جمع حبيبة ولحظ الحبائب أي رؤيتهن، يقول: أصبح دهري ليلًا كله بعد ظعن الأحبة فليس هناك صباح إلا بردهن، وقد نفي عني الكرى فلا رقاد إلا برؤيتهن، والمعنى ردوهن عليَّ حتى يرتد صباحي ورقادي.
(٣٩٩مدلهمة: شديدة السواد، والغياهب: الظلمات، وهذا البيت كالتعليل لما ذكره في البيت السابق. يقول: لما رحلتم لم أبصر بعدكم شيئًا؛ أي بكيت حتى عميت، فآض نهاري ليلًا حالك السواد، وعبارة الواحدي: يريد أن جفونه مختومة بعدهن لم تفتح، وإذا انطبقت الجفون فالنهار ليل، وقال التبريزي: هذا معنى البيت الأول؛ أي غاب عني الكواعب فغاب صباحي بعدهن؛ لأن الدنيا تظلم في عين المحزون، فردوا رقادي فقد كنت أراهم في نومي، وقد فقدتهم منذ فارقت الرقاد، والعرب إذا وصفت الأمر الشديد شبهت النهار بالليل لإظلام الأمر.
(٤٠٠بعيدة: بدل من مقلة — في البيت السابق — ومن روى بعيدة بالرفع فهي خبر ابتداء محذوف أي هي بعيدة، والهدب: الشعر النابت على أشفار العين، ولكن المراد بأعالي كل هدب: ما نبت على الجفون الأعلى فهو عام قد خصص، ونص عبارة الواحدي: إذا حمل قوله كل هدب على العموم، فالحاجب ها هنا بمعنى المانع؛ لأنا إذا حملنا الحاجب على المعهود كان مغمضًا لأن هدب الجفن الأسفل إذا عقد بالحاجب حصل التغميض، وإذا جعلنا الحاجب بمعنى المانع صح الكلام: وإن جعلنا الحاجب المعهود حملنا قوله كل هدب على التخصيص، وإن كان اللفظ عامًّا، وهذا مثل قول الآخر:
وَرَأْسِيَ مَرْفُوعٌ لِنَجْمٍ كَأَنَّمَا
 
قَفَاهُ إِلَى صُلْبِي بِخَيْطٍ مُخَيَّطُ
يقول: إن عينيه لا تنطبقان، وتباعدت أجفانه حتى لكأن أعالي أهدابها قد عقدت بالحاجبين، ومثل قول بشار بن برد:
جَفَتْ عَيْنِي عَنِ التَّغْمِيضِ حَتَّى
 
كَأَنَّ جُفُونَهَا عَنْهَا قِصَارُ
(٤٠١يقول: إن الدهر مولع بمخالفتي حتى لو هويت فراقكم لواصلتموني؛ يعني أن من أهواه يبعد عني، ومن أجتويه يقرب مني لسوء صحبة الدهر إياي، فقوله لفارقته؛ أي لفارقت الفراق مضطرًا بحكم الدهر — وفي هذا يقول بعضهم:
أَرَى مَا أَشْتَهِيهِ يَفِرُّ مِنِّي
 
وَمَا لَا أَشْتَهِيهِ إِلَيَّ يَأْتِي
وَمَنْ أَهْوَاهُ يُبْغِضُنِي عِنَادًا
 
وَمَنْ أَشْنَاهُ يَشْبَثُ فِي لَهَاتِي
كَأَنَّ الدَّهْرَ يَطْلُبُنِي بِثَأْرٍ
 
فَلَيْسَ يَسُرُّهُ إِلَّا وَفَاتِي
وقال العكبري: قوله لفارقته: كان الوجه أن يقول لفارقني، لكنه قلبه لأن من فارقك فقد فارقته، وهذا من باب القلب. ثم قال: وكان حقه أن يقول أخبث الأصحاب؛ لأنه أراد خبث من يصحبه، وإذا كان اسم الفاعل في مثل هذا يجوز فيه الإفراد والجمع كقوله تعالى: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي أول من يكفر: وأنشد الفراء:
وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ
 
وَإِذَا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ
فأتى ألأمرين جميعا.
(٤٠٢يقول: ليت أحبتي واصلوني مواصلة المصائب، وليت المصائب بعدت عني بعدهم. يعني أن المصائب ملازمة له فهو يتمنى أن تكون أحبته كذلك، وهذا كما قال أيضًا:
لَيْتَ الْحَبِيبَ الْهَاجِرِي هَجْرَ الْكَرَى
 
مِنْ غَيْرَ جُرْمٍ وَاصِلِي صِلَةَ الضَّنَا
(٤٠٣أراك: أظنك، والسلك: الخيط ينظم فيه الدر وغيره، وقوله: عليك بدر، يريد بدر عليك فقدم الجار والمجرور، والترائب: موضع القلادة من الصدر، يقول: أظنك حسبت السلك الذي في قلادتك جسمي لمشابهته إياه في الدقة، فحلت بينه وبين ترائبك بالدر المنظوم فيه؛ لئلا يلامس صدرك؛ أي إن ولوعك بمشاقتي حملك على منافرة كل ما يشاكلني، يشكو مخالفتها إياه ورغبتها عن وصاله وهو من معاني المتنبي البديعة.
(٤٠٤يقول: لشدة سقمي نحلت حتى لم يبقَ لي جثمان يحس به، فلو ألقيت في شق قلم، لم يتغير به خط كاتب، وهذا من مبالغات الشعراء، وقد افتنوا في هذه المعنى كل الافتنان، فمن ذلك قول بعضهم:
ذُبْتُ مِنَ الْوَجْدِ فَلَوْ زُجَّ بِي
 
فِي مُقْلَةِ الْوَسْنَانِ لَمْ يَنْتَبِه
وقول الآخر:
فَاسْتَبْقِ مَا أَبْقَيْتَ لِي فَلَعَلَّنِي
 
يَوْمًا أَقِيكَ بِهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ
مِنْ مُهْجَةٍ ذَابَتْ أَسًى فَلَوَ انَّهَا
 
فِي الْعَيْنِ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْإِغْفَاءِ
(٤٠٥قال الواحدي: الذي أمرت به هو ملازمة البيت وترك السفر، والذي خوفته به هو الهلاك، وتقدير اللفظ: تخوفني بشيء دون الذي أمرت به؛ أي تخوفني بالهلاك وهو دون ما تأمر به من ملازمة البيت؛ لأن فيها عارًا، والعار شر من البوار، والضمير في تخوفني: للحبيبة، أو العاذلة، وعبارة ابن جني: تخوفني الهلاك وهو عندي دون العار الذي أمرتني بارتكابه.
(٤٠٦يقول: لا بد لي من يوم مشهور أكثر فيه قتل الأعادي فأسمع بعده صياح النوادب عليهم، والأغر في الأصل: الذي في وجهه بياض، والمحجل: قال أبو عبيدة: المحجل من الخيل أن تكون قوائمه الأربع بيضًا يبلغ البياض منها ثلث الوظيف أو نصفه أو ثلثيه بعد أن يتجاوز الأرساغ ولا يبلغ الركبتين، العرقوبين — وأغر محجل كما ترى من صفات الخيل — استعارهما لليوم؛ يريد يومًا مشهورًا ينماز عن الأيام كما ينماز الفرس بالغرة والتحجيل.
(٤٠٧العوالي: صدور الرماح؛ أي الأسنة، والقواضب: السيوف القواطع يقول: مثلي إذا رام أمرًا لم يبالِ أن يكون دون الوصول إليه رماح وسيوف: يريد أنه يتوصل إليه وإن كان دونه حروب وأهوال.
(٤٠٨كثير: مبتدأ، ومثل: خبر أول، ويزول: خبر ثانٍ: يحث على الشجاعة والإقدم وينهى عن الجبن. يقول: إن طول العمر وقصره سيان؛ لأن نهاية كل منهما الزوال، وما بقي من العيش لاحق بما ذهب فهو في حكمه، وإذن لا وجه للحرص على الحياة، وقال ابن الرومي:
رَأَيْتُ طَوِيلَ الْعُمْرِ مِثْلَ قَصِيرِهِ
 
إِذَا كَانَ مُفْضَاهُ إِلَى غَايَةٍ تُرَى
وقال العكبري: وهذا من كلام الحكماء، قال الحكيم: أواخر حركات الفلك كأوائلها، وناشئ العالم كلاشيه في الحقيقة لا في الحس.
(٤٠٩إليك: اسم فعل بمعنى كفى. يقول: كفى عني فإني لست ممن إذا خشي الهلاك صبر على الذل والهوان. جعل الأفاعي مثلًا للهلاك؛ لأنها تقتل بسمها دفعة واحدة، والعقارب مثلًا للذل والهوان؛ لأن لسعها لا يقتل ولكنه يتكرر، فيكون أطول عذابًا، وأمر آلامًا، وإليك كلمات الشراح؛ قال ابن جني: لست ممن إذا تخوف عظيمة صبر على مذلة وهوان، فشبه الأفاعي بالعظيمة والعقارب بالذل، وقال الواحدي: جعل عض الأفاعي لكونه قاتلًا مثلًا للهلاك، وجعل لسع العقارب مثلًا للعار؛ لأنه لا يقتل، قال ابن فورجه تعليقًا على هذا: من بات فوق العقارب أدته بكثرة لسعها إلى الهلاك كما لو نهشته الأفعى، إنما يريد أن العار أيضًا يؤدي الإنسان ذا المجد إلى الهلاك؛ لتعيير الناس إياه، بل هو أشد؛ لأنه عذاب يتكرر والهلاك دفعة واحدة، فجعل الأفاعي مثلًا للهلاك والعقارب مثلًا للعار.
(٤١٠الأدعياء: جمع دعي وهو المنتسب إلى غير أب، يريد بهم هنا جماعة يدعون نسب علي — رضى الله عنه — أرادوا به سوءًا، وأعدوا له جماعة من السودان ليقتلوه، وكفر عاقب قرية بالشام من أعمال حلب.
(٤١١يقول: لو كانوا قد صدقوا في دعوى انتسابهم إلى المصطفى  لجاز صدقهم في الوعيد أيضًا فحذرتهم، ولكنهم إذ كذبوا في نسبهم علمت أنهم لا يصدقون، فهل يكون قولهم فيَّ وحدي صادقًا؟
(٤١٢يعرض بالذين توعدوه. يقول: لا عجب من قصدهم إليَّ بهذا الوعيد، فإني لا أزال أتعثر بالعجائب حتى لكأنها بذلك تتعجب من صبري وأناتي وعلو همتي، فهي تيممني وتنسل إليَّ من كل حدب.
(٤١٣ذؤابة النعل: ما أصاب الأرض من المرسل على القدم لتحركه، ويروى بدل ذؤابتي ذوائبي، يصف نفسه بكثرة الأسفار يقول: إنني لم أدع موضعًا من الأرض إلا جولت فيه.
(٤١٤الكور: الرحل، وطاهر هو طاهر بن الحسين العلوي الذي قال فيه المتنبي هذه القصيدة، وهذا البيت من أبدع ما قيل في حسن التخلص. يقول: كما أن مواهب الممدوح لم تدع مكانًا إلا أتته كذلك أنا لم أدع مكانًا إلا أتيته، فكأني امتطيت ظهور مواهبه.
(٤١٥يقول: لم يبقَ أحد لم ترد مواهب الممدوح داره كما ترد الناس المشارب مع أن مواهبه شرب للناس فكان حقها — كما هي العادة — أن يردها الشاربون، ولكنها هي ترد الشاربين، فقوله يردن أي المواهب وهو من ورود الماء، والفناء: الساحة والمنزل، والضمير فيه للخلق والشرب المورد وحظ الوارد من الماء، وورود: مفعول مطلق ليردن مضاف إليه مفعوله، وعبارة الخطيب التبريزي: كأنهن قد وردن عليه ورود الناس المشارب؛ لينتفعوا بها، يعني أن هذه منفعة للخلق الذي ترد إليه كما ينفع الماء وارده، وقريب من معنى البيت قول القائل:
إِذَا سَأَلُوا شَكَرْتُهُمُ عَلَيْهِ
 
وَإِنْ سَكَتُوا سَأَلْتُهُمُ السُّؤَالَا
(٤١٦الابتذال: مثل البذل، والرغائب: جمع رغيبة، وهي الشيء المرغوب فيه. يقول: إن شجاعته وسخاءه غريزتان موروثتان، والأعادي: يروى العوالي، وهي صدور الرماح.
(٤١٧الشهاد: جمع شاهد، بمعنى حاضر. يقول: إنه غيب عن وطنه كل من ليس من ديدنه السفر؛ لأن سخاءه يدعوهم إليه، وردهم إلى الأوطان بعد أن غمرهم بنعمه وأغدق عليهم العطاء فاستغنوا عن السفر إلى غيره.
(٤١٨الندى: مبتدأ، وأعز: خبر، وأصل البنان: أطراف الأصابع، والمراد بها هنا: الأكف، وقد روي بدل في بنانهم: في أكفهم، والممدوح من ولد السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله  وزوج علي بن أبي طالب، ومن ثم قال: كذا الفاطميون. يقول: إن الجود لا يفارقهم حتى إن خطوط الرواجب قد يمكن أن تمحى منها، والجود لا يمحى من أكفهم، هذا وثمة فرق بين الفاطميين وبين العلويين؛ فالفاطميون هم أولاد فاطمة من ولدها الحسن والحسين، فكل فاطمي هو من ولد الحسن والحسين، وأما العلويون فهم من ولد علي يدخل فيهم الفاطميون وغيرهم كأولاد العباس بن علي وعمر بن علي ومحمد بن علي بن الحنفية، والرواجب: واحدتها راجبة، وهي مفاصل أصول الأصابع التي تلي الأنامل، وقيل: هي بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل: هي ظهور السلاميات، وقيل: هي ما بين البراجم من السلاميات، وقيل: هي مفاصل الأصابع ثم البراجم ثم الأشاجع التي تلى الكف، وقال ابن الأعرابي: الراجبة البقعة الملساء بين البراجم، والبراجم الشنجات في مفاصل الأصابع في كل أصبع ثلاث برجمات إلا الإبهام.
(٤١٩السلاهب: جمع سلهب، وهو الفرس الطويل. يقول: إنهم من الشجاعة والإقدام بحيث يعد سلاح أعدائهم في نظرهم كأنه غبار خيلهم لا يعبئُون به ولا يكترثون، بل يشقونه لا يرتدون عن أعدائهم. وخص السلاهب؛ لأنها أسرع، وغبارها أرق وألطف، وقال الواحدي: يجوز أن يكون السلاهب خيل الممدوحين، ويقال: فرس مسلهب أي ماضٍ، ولذا قال الجوهري: السلهب من الخيل الطويل على وجه الأرض، ومنه قول الأعرابي في صفة الفرس: وإذا عدا اسلهب، وإذا قيد اجلعب، وإذا انتصب اتلأب… اسلهب: امتد، واجلعب: انبسط ولم ينقبض، واتلأب: أقام صدره ورأسه.
(٤٢٠الضمير في نواصيها: للسلاهب، وهي جمع ناصية، مقدم شعر الرأس، ومنه نواصي الناس أي أشرافهم. قالت أم قبيس الضبية:
وَمَشْهَدٍ قَدْ كَفَيْت الْغَائِبِينَ بِهِ
 
فِي مَجْمَعٍ مِنْ نَوَاصِي النَّاسِ مَشْهُودِ
وجئنها؛ أي جئن القسي؛ أي بلغت السلاهب القسي، والهوادي: الأعناق. ودوامي: حال، وأسكن الياء ضرورة. يقول: إنهم استقبلوا رماة أعدائهم بوجوه خيلهم فلم تنثن حتى وصلت إليهم، وقد رميت أعناقها دون أعطافها وأعجازها؛ لأنها صممت على الإقدام لا تنحرف يمنة ولا يسرة، ولهذا لم تصب سهام الأعداء إلا أعناقها، وسلمت سائر أعضائها، وفي سبيل هذا المعنى يقول بعضهم:
شَكَرَتْ جِيَادُكَ مِنْكَ بَرْدَ مَقِيلِهَا
 
فِي الْحَرِّ بَيْنَ بَرَاقِعٍ وَجِلَالِ
فَجَزَتْكَ صَبْرًا فِي الْوَغَى حَتَّى انْثَنَتْ
 
جَرْحَى الصُّدُورِ سَوَالِمَ الْأَكْفَالِ
(٤٢١الشبائب: جمع شبيبة، وهو أيضًا جمع شبة: مثل ضرة وضرائر، أما الشابة فجمعها شواب. تقول: نسوة شبائب وشواب، قال الراجز:
عَجَائِزًا يَطْلُبْنَ شَيْئًا ذَاهِبَا
 
يَخْضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ شَيْبًا شَائِبَا
يَقُلْنَ كُنَّا مَرَّةً شَبَائِبَا
يقول: هم أحلى في القلوب من الحياة إذا أعيدت على صاحبها، وذكرهم أكثر على الألسنة من ذكر أيام الشباب.
(٤٢٢يريد بعلي: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ لأن

ح، ف 5

  وعجاجة بالنصب عطف على ما تقدم؛ أي ورأيت عجاجة، أو بالجر على إضمار رب، والعجاجة: الغبار، وتبسم — بحذف إحدى التاءين — أي تتبسم، والقذال: جما...