﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
سبحانه كما قلنا : تنزيه وتمجيد، وهناك في الآية التفات دقيق من صيغة المخاطب إلى صيغة الغائب .
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
هذا التفات من المخاطب إلى الغائب، التفات بلاغي هدفه أن الله سبحانه وتعالى أعرض عنهم، استخفافاً بحالهم، إنهم ليسوا جديرين أن يخاطبهم الله سبحانه وتعالى، حينما تتحدث عن إنسان، وتراه ليس أهلاً لك، تقول لزميلك : هذا لا يفهم، تتركه، وتستخدم ضمير الغائب،
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
والله سبحانه وتعالى تبرأ عن أن يكون له شريك يدفع عنهم أمر الله، بماذا هم معتصمون ؟ ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه، ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ )) .
[ أخرجه الترمذي ]
أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه، فلذلك :
﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
و
هؤلاء الذين أشركوهم مع الله عز وجل هل ينفعونهم ؟ هل يضرونهم ؟ قص علينا ربنا سبحانه وتعالى قصة سيدنا إبراهيم :
﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74)قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) ﴿ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾
( سورة الشعراء : 70 ـ82 )
هذا الذي تعبده من دون الله ماذا يفعل؟ أحد الولاة كان عنده أحد التابعين، فجاءه كتاب من يزيد، هذا الكتاب فيه أمرٌ لا يرضي الله عز وجل، فقال هذا الوالي لذاك التابعيّ : ماذا أفعل ؟ فقال التابعي كلمة تكتب بماء الذهب، قال: إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله،
﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
عندما الإنسان يتعرف إلى الله عز وجل، ويؤمن به، ويوحد، تنشأ عنده حالة نفسية من نوع الغنى، هذه الحالة لا يعرفها إلا من ذاقها .
أحد الرواة قال : دخلت على حمَّاد في بيته، كان عالماً، صادقاً عاملاً، دخلت على حمَّاد في بيته فلم أجد إلا حصيراً وهو جالسٌ عليه، وبيده مصحف يقرأ فيه، وجُرابًا فيه كتب، ومطهرة يتوضأ منها، وليس في البيت أثاثٌ، فمكثت قليلاً وأنا جالس أفكر في هذا الرجل، وفي بيته، فبينما أنا جالس دق الباب، فقال حماد لبعض إخوانه : اخرجْ، وانظر من الطارق ؟ فقال : رسول من سليمان إلى حماد من أمير المدينة، فأذن فدخل، فقال أما بعد : فصبَّحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها، والسلام، وظن هذا الرسول رسول الأمير أن حمادًا سيستجيب له، وسيفرح بهذه الدعوة، لكنه قال له : اقلب الكتاب، واكتب على ظهره، أما بعد : فأنت صبحك الله بما صبح به أولياءه، وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً، فإذا وقعت لك مسألة فأتنا، وسل ما بدا لك، ولا تأتِ بخيلك، ولا برَجِلك، أي تعال وحدك، وصلَ هذا الكتاب كتاب الشيخ حماد إلى أمير المدينة سليمان، فتسرب في قلبه إخلاص حماد، وعزته للعلم والعلماء، وجاء يسعى إلى دار حماد، ليسمع الفتوى، وينزل بمجالس العلماء، التي تحيى بها القلوب، وينجلي صداها، فدق الباب، فقال لأحد إخوانه: انظر من الطارق؟ فعاد وقال: سليمان أمير المدينة، فقال: لِيدخل وحده، فدخل سليمان غرفة حماد، وقد علت هيبته هيبة الملك، لا يدري من أين تسربت إليه ؟ وجلس محتشماً متهيباً كأنما هو أمام ملك عظيم مهيب، ثم قال وهو يتلعثم في كلامه : ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رهبة ؟ فقال حماد : إذا أراد العالم بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد بعلمه الدنيا هاب كل شيء، والقصة لها تتمه .
على كلٍ :
﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
ليس إلا الله .
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا فإنا منحنا بالرضا من أحبـا
ولذ بحمانا واحتمِ بجنابنــا لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
ثم يقول الله عز وجل :
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾
الله سبحانه وتعالى المنزه عن الشرك لا يدَع الناس في ضلالهم، وأوهامهم وشقائهم، إنما ينزل عليهم من السماء ما يحييهم وينجيهم، كما أن الله سبحانه وتعالى ينزل من السماء ماء ليحيي به الأرض بعد موتها، كذلك ينزل من السماء روحاً من أمره ليحيي القلوب بعد موتها، ماء السماء يحيي الأرض بعد موتها، ورسالات الأنبياء تحيي القلوب بعد موتها،
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ ﴾
هذه الآية رد على منكري النبوة، الله سبحانه وتعالى لرحمته ولطفه وحرصه على عباده كلما ضل الناس بعث إليهم رسولاً يهديهم سواء السبيل، وفي الديانة الواحدة كلما فترت همة الناس، وضعفت عزيمتهم، ودخل على الدين ما ليس منه، بعث الله على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها .
هنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾
( سورة الحجر)
وقلنا وقتها : إن اليقين هو الموت، وقلنا وقتها : إن الله سبحانه وتعالى سمى الموت يقيناً لتيقن وقوعه، ولأن فيه اليقين، يعلم المرء عند الموت علم اليقين، كذلك كان من الممكن أن يقول الله سبحانه وتعالى : ينزل الملائكة بالقرآن، الروح هنا القرآن، لماذا قال : الروح ؟ هذه تسمية هادفة، سمى الله سبحانه وتعالى القرآن روحاً ؛ لأنه حياة للقلوب، البيت الذي ليس فيه قرآن كالبيت الخرب، وفي الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ ))
[الترمذي]
وفي الحديث :
(( إن القلوب لتصدأ، قيل : وما جلاؤها ؟ قال : ذكر الله ))
[ الكامل لابن عدي عن ابن عمر]
هي قراءة القرآن، فالقرآن سماه الله روحاً، لأن فيه حياة النفوس، القرآن تحيى به القلوب كما تحيى بالماء الأبدان، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
( سورة فاطر : من الآية 1 )
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ﴾
( سورة الكهف)
الكون في كفة، والكتاب في كفة، وما دام الله سبحانه وتعالى قد خلق الخلق فلا بد من أن يرشدهم، قد يشق الطريق، ويفرش أرضه بالإسفلت، وبعد ذلك توضع الإشارات الدالة على معالمه، خلق الله السماوات والأرض، وأرشد الخلق إلى طريق الحق،
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
( سورة فاطر : من الآية 1 )
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ﴾
( سورة الكهف)
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
( سورة الواقعة : 75 ـ 77 )
الكون في كفة، وهذا الكتاب في كفة، قد ترى جامعةً ضخمة، فيها أبهاء وقاعات، ومخابر، وحدائق، ومكتبات، ولها نظام داخلي، هذا النظام الداخلي لا يقل خطورة عن الأبنية الخارجية، فربنا سبحانه وتعالى لأنه منزه عن الشرك، لأنه حريص على هداية خلقه، لأنه خلق الإنس والجن ليعبدوه، لأنه خلقنا ليرحمنا، نزل علينا قرأناً هو بمنزلة الروح لنا، الإنسان من دون دين جسم بلا روح، نفسه مُؤَثرة، قلبه قاسٍ، تستوحش منه، يعيش ليأكل، ويشرب، ويتمتع، ليس له هدف نبيل، اهتماماته سطحية، وتافهة، فلذلك قال الله عز وجل :
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ ﴾
هذه الباء باء المصاحبة، كأن تقول : خرجت بثيابي ؛ أي خرجت مع ثيابي،
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ ﴾
أي بهذا الكتاب الذي فيه حياة النفس، وحياة القلب، وحياة الضمير، وحياة العقل، وحياة الأسرة، وحياة المجتمع، وحياة الأمة، وحياة الإنسانية .
قالوا : تمام النعمة الهدى، يعني النِعَم كلها إذا كنت مهتدياً إلى الله عز وجل فيمكن أن نرمز لهذا الهدى بواحد، فإذا كان معك مال يعينك على أن تعيش بالحياة، فهذا المال صفر أمام الواحد، إن كانت لك زوجة تعينك على أمر دينك، فالزوجة صفر آخر، إن كان لك مأوى تأوي إليه، فهذا المأوى صفر ثالث، إن كان لك مورد رزق مريح، فهذا صفر رابع، فإذا ألغيت الواحد، كل الذي عندك أصفار، العلماء قالوا: تمام النعمة الهدى، من دون الهدى ليس هناك شيءٌ اسمه نعمة .
﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25)وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26)وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ﴾
( سورة الدخان : 25 ـ 27 )
نَعمة، ليست نِعمة، بل هي نقمة .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
( سورة الأنعام )
شيءٌ آخر، قال تعالى :
﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾
( سورة الفتح)
إذاً أنجاه من البئر، من الجب، أخرجه من السجن، لكن تمام النعمة أن يكون المرء مهتدياً إلى الله سبحانه وتعالى :
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾
من يشاء من عباده على الأنبياء، والله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته .
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة آل عمران)
الله اصطفاهم، اختارهم على علم، فمقام النبوة، مقام اصطفائي، الله سبحانه وتعالى نظر في عباده نظرة، اصطفى منهم أكثرهم حباً له، أكثرهم حمداً، أكثرهم قرباً، أكثرهم نفعاً، فجعلهم أنبياء مُصطَفَيْن على من يشاء من عباده، والنبي أيّ نبيٍ لا يزيد على أن يكون عبداً لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، هم قالوا :
﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾
( سورة الزخرف)
هم رشّحوا أناسًا من عليةِ القوم لينزل القرآن عليه، لكن الله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته :
﴿ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾
( سورة النحل )
لماذا لم يقل : أن بشروا؟
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ ﴾
هذا الروح ؛ أي هذا الكتاب، القرآن أو بيانه، القرآن الكريم وما بيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام منه، هذا فحواه :
﴿ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾
الإنذار ؛ من تعاريف الإنذار أنه إخبار بالخطر، الإنذار إخبار فيه تخويف، أو إعلام بالمحظور، هذا هو الإنذار، وأما قوله تعالى :
﴿ أَنْ أَنذِرُوا ﴾
أي : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده لينذروا، أن أنذروا بمعنى لينذروا :
﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾
لا إله ؛ أي لا معبود بحقٍ إلا الله، ليس في الكون جهة تستحق العبادة إلا الله، ولماذا ليس في الكون جهة تستحق العبادة إلا الله؟ لأنه ليس في الكون فاعل ومسيِّر إلا الله، لأن الأمر كله إليه، هو وحده يستحق العبادة، لأن الأمر كله إليه، إذاً هو وحده الذي يستحق العبادة، فالديانات السماوية كلها، فحواها :
﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
( سورة الأنبياء)
﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾
( سورة النحل )
التوحيد نهاية العلم، والتقوى نهاية العمل، كم في الأرض من علوم، نهاية العلوم كلها التوحيد، إذا عرفت أنه لا إله إلا الله، فقد عرفت كل شيء، وإذا غابت عنك هذه الحقيقة فقد جهلت كل شيء، التوحيد منتهى العلم، والتقوى منتهى العمل، يعني، مهما كنت ذكياً، إذا كنت أمام حفرة سحيقة، وأنت تمشي على طريق، مهما أقنعتني بعكس ما تريد فتفاديك لهذه الحفرة منتهى العمل الصالح، منتهى العلم أن تعرف أنه لا إله إلا الله، ومنتهى العمل أن تتقي الله سبحانه وتعالى، بمعنى أن تتقي معصيته، أو أن تتقي المضار بنوره، إما أن تتقي معصيته، وإما أن تتقي بنوره، تقبل عليه فيلقي في قلبك نوراً تتقي به، وترى به الخير خيراً، والشر شراً، فكلمة التوحيد لا إله إلا الله، وما يتبعها من عبادة أو تقوى هي فحوى رسالات الأنبياء جميعاً، يقول الله عز وجل :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
( سورة الأنبياء : 25 )
ما دام الله سبحانه وتعالى واحد في الألوهية فهو وحده الذي يُتقى، ولا يُتقى أحد معه، ما دمت لا ترى إلهًا غيره إذًا لا يُتقى أحد معه، وهنا استنبط العلماء أن صلاح العمل مبني على صلاح الاعتقاد ، متى تتقون ؟ إذا عرفتم أنه لا إله إلا أنا، أيْ إن الإنسان لا يستطيع أن يتقي الله سبحانه وتعالى إلا إذا عرف أنه لا إله إلا الله، فصلاح العمل أساسه صلاح العقيدة، استقامة الرجل أساسها التوحيد، صلاح العمل أساسه أن تكون على هدى من ربك، فالتوحيد كما قال بعض العلماء روح الدين، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، والتوحيد حياة النفس .
﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54)مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56) ﴾
(سورة هود : 55 ـ 56 ) .
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
أذكركم ثانية بكلمة الحق التي وردت قبل درسين، يعني أنّ اللهَ لم يخلق السماوات والأرض باطلاً، بل خلقها بالحق، ولم يخلقهما لعباً، بل خلقها بالحق، الحق هو الشيء المضاد للعب، والمضاد للزوال، الشيء الثابت الهادف، الحكمة الثابتة، هذا هو الحق، فلذلك هناك هدف كبير من خلق السماوات والأرض، إن لم يكن هذا الهدف واضحاً بين عينيك، فالأمر خطير، إلى أين أنت تسير ؟ إذا كنت لا تعرف الهدف :
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
سبحانه وتعالى عن أن يخلقها بالباطل، و سبحانه وتعالى عن أن يخلقها لعباً، أو عبثاً، أو سدىً .
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾
( سورة المؤمنون : 115 ـ 116 )
الملِك الحق، دليل على عظمة الله سبحانه وتعالى، وعلى وحدانيته، وعلى أنه خلق السماوات والأرض بالحق .
كلنا نمشي على الأرض، وكلنا ندخل أحياناً بعض الأراضي الزراعية، نرى تراباً قد أنبت عشباً، أو كلأً، أو محاصيل، أو خضراوات، أو أشجارًا مثمرة، فيا ترى من منا يصدق أن هذا التراب الذي نطأه بأقدامنا فيه عوالم من الكائنات الحية لا يعلمها إلا الله ؟
في مقالة عن التربة الزراعية وما في