الثلاثاء، 12 مارس 2024

عادات

اعتدت عندما كنت صغيرة أن أرسم لنفسي زواجاً في الخيال يختلف عن زواج أبي وأمي، الذين أحبهما جداً وأراهما رائعين كأب وأم لكن ليس كزوجين.

لا يتعانقان كثيراً بكل مكان بالبيت فقط عند عودة أبي من السفر أو عندما تكون أمي مريضة أو بعيد ميلاد أحدهما… عناقاً ليس رومانسياً أشبه بعناقهما لي أو بعناق صديقين… ليس مبهراً أبداً!

ولا يتهامسان ولا يتناجيان.. نعم بصورة غامضة يفهمان نظرات بعضهما حين يكون حولهما أشخاص.. لكن لا يقولان لبعضهما طوال الوقت كلام في الحب.. تخرج أحياناً عفواً حبيبي أو حبيبتي كأنها سقطة لسان.. لماذا لا يقولان لبعضهما شعراً؟

عندما سافرت أمي مرة لبضعة أيام أو كانت بالمستشفى، كان أبي يبدو كأنه لا يجد مكاناً يرتاح به بالبيت مع أنني وأختي الأصغر فعلنا كل شيء..

دخل غرفته وخرج أعددت الطعام.. أثنى عليه… ثم ترك معظمه .. لم؟ الملح زائد.. لايوضع الثوم بهذه الطريقة سليماً على وجه الحساء.. ثوم؟ هذا لوز يا أبي .. آه! طيب.. اللحم ليس مطهياً تماماً.. لكنه ليس مسلوقاً ..

ثم ختم بأن كل شيء جميل وهو يريد بعض الفاكهة فقط.

كنت صغيرة في الصف الأول الثانوي ..

دخل غرفته .. ما هذا ثيابي لم تعلق!

تعلق! أه طيب سأعلقها يا أبي… ولسان حالي ولم لم تعلقها عندما خلعتها.

لا أتركيها خلاص .. أنتم لا تعرفون شيئاً.. متى تعود أمك!

ثم شعر أنه قسا فقبلني.

كنت قد أعددت الفول .. لأن أبي لابد أن يفطر فول وأمي تعده بالبيت كل أسبوع وتضعه بالثلاجة.

شعرت وقتها يا إلهي لم أكن أعرف أن الاعتناء بأبي متعب هكذا.. هو أب رائع.. لكنه زوج متعب.

سأتزوج رجلاً يعلق ثيابه وليس له شروط بكل شيء.

أمي بمجرد أن يسافر أبي تبكي .. وتضيق بكل شيء.. وعندما ارى خطاباتهما خلسة أجد بها الكثير من المشاعر . يدعوان بعضهما بأسماء تدليل.

ورغم أن أبي لم يكن يغيب كثيراً، أو كان لا يلبث أن يستدعينا لنلحق به بعدما يرتب لنا السكن وأمور الحياة، إلا أن أمي كانت تبكي وتنطوي على نفسها بمجرد غيابه.

أمي التي تستطيع كل شيء في العادي كنت وأنا طفلة أحس أنني مسئولة عنها بغياب أبي.

أبي كان ياتي لها بالجبن الأزرق والحرنكش وأنواع من الحلوى .. وهو لا يحب كل ذلك ولكن كان يهتم أن يبحث عنه وكلما وجده أتاها به.

أبي العالم الذي يتتلمذ عليه طلبة الدكتوراة كان يقف ليعد لامي شوربة خضار لأن عندها برد ويعد لنا الإفطار من حين لآخر وهو فخور أن لا أحد يستطيع إعداد طبق الفول بالطماطم والفلفل مثله.

حين يختلفان نعرف ذلك فقط من عدم تبادلهما إلا الضروري من الكلام ومن وجومهما فقط .. لا نسمع شجاراً .. باب غرفتهما مغلق ولا شيء يخرج عنها.

أمي كانت تبدو حزينة وكنت أحزن من أجلها وعندما أصبحت مراهقة تدخلت.. قلت لأبي: إن أمي حزينة ولابد أن تصالحها فقال لي: لقد تجاوزت كل الخطوط..

كان لأبي هيبة عظيمة بنفسي وبنفس كل من يتعامل معه نبعت ليس فقط من علمه ومكانته ولكن من خلقه وصدقه وعدم قبوله لأي تجاوز ولأنه كان مع كل ذلك متواضعاً دائماً حنون القلب ويخفي ذلك بجديته وعمليته.

قلت له: يعني أتجاهل ما أراه أم ماذا؟

كانت المعضلة التي يجد نفسه فيها هو وكل أب حريص على تربية أولاده كأشخاص أسوياء هي أنه عند حثهم على الصدق والتعبير عن النفس وإعطاءهم الحرية لتنمو عقولهم لم يحسب حساب أن يواجهونه هو ويطالبونه بتنفيذ ما علمهم إياه.

نظر إلي كأنه ينتبه أنني لم أعد طفلة: ولماذا أصالحها أنا طيب؟ لماذا لا تصالحني هي؟

قلت: لأنك أنت الكبير ألا تقل لي ذلك عندما أختلف مع أختي؟ ثم إنها تصالحك أحياناً.

ولأن ماما ليس لها غيرك وتشعر ليس فقط بالحزن من الموقف ولكنها تفتقد كل من لها كذلك بذات اللحظة!

(أبويها كانا متوفيين)

نظر لي أبي مجاهداً نفسه ليبدو غير متأثر بما قلت: ويعني أنا لي غيرها.. ما أنا ليس لي أحد كذلك!

قلت له: بل لك، ثم استطردت، وأنت الكبير وأنت الأقوى وأنت بابا.

اتهمني ابي أنني أتعاطف مع أمي .. فقلت له وأنا أنصرف: أنت أيضاً تتعاطف معها.

الحقيقة كانت أمي كذلك تتهمني بالتحيز لأبي..

لايمكن أن تفوز بينهما!

كانت أمي تريد استكمال دراستها عندما تزوجا فأعانها أبي بكل وسيلة وفرح بنجاحها وتقدمها بعملها واعتبره أحد إنجازاته وكان يقول لها من حين لآخر لابد أن تعرفي كل شيء .. ماذا لو مت أنا الآن من الذي سيكمل المسيرة غيرك؟

أمي ساندت أبي في دراساته حتى أنها كانت تكتبها له بنفسها على الآلة الكاتبة قبل انتشار الكمبيوتر.

عندما كبرت عرفت أن الزواج السعيد قائم على الحب الحقيقي والعطاء الدائم واحتواء شريك الحياة.

ليس كحب الأفلام ليس كلمات حب طوال الوقت، ولكنه أشبه شيء بالنسيج المتداخل الألوان الذي يشعرك بالدفء مهما اشتد البرد ويشعرك بالبهجة بألوانه الحقيقية مهم ضاقت عليك الدنيا ويشعرك أن لك ستراً وركناً خاصاً بتفاصيل صغيرة لا يعلمها غيركما ويشعرك أن لك رفيق حياة وصديق حميم تقاسمه كل شيء وتفهم لغته.. وغير ذلك مما لن يكفي المجال للتعبير عنه.

يكفي أن أقول لك أنه حين مات أبي قالت لي أمي أنها تشعر باليتم للمرة الثانية، وحين أشرنا ذات مرة لمدة زواجهما التي تخطت الأربعين عاماً قالت نحن مازلنا متزوجين الموت لا يغير ذلك.

أبي أصر على أن تقيم جدتي معهما إلى أن توفاها الله وكانت تحب أبي جداً وكان يحبها وبكى كثيراً عندما توفاها الله وهذه إحدى المرات القليلة التي رأيته يبكي بها.

ولم تنس له أمي ذلك رغم أنها كانت حريصة أن تطمئن أمها دائماً أنها هي التي تنفق عليها لأن لها راتب، لتشعر بالكرامة.

لذلك لن أقول لك أن العادات التي يفعلها الأزواج السعداء هي أن يبدوان كالعشاق بالأفلام ولن اقول لك أن هناك شيئاً محدداً لابد أن تفعله؛ فقد تزوجت رجلاً يعلق ثيابه بنفسه فعلاً ولا يفطر بالضرورة فول :) ولم يمنع ذلك السعادة، كانت هناك تفاصيل أخرى.

السعادة ليست شيئاً كاملاً تاماً بل هي حالة عامة تزيد وتنقص .. والأصل هو الشعور بالرضا الشعور بأنك مقدر وأنك لا تهون.

العطاء الدائم بحب والتفاهم على كل شيء واحترام كل منكما لمشاعر الآخر واعتباراته… التغاضي عن الصغائر.. والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، والتغاضى عما لا يعجبك بها.

ابتسامة حقيقية عند اللقاء.

واحتواء.. مساندة حقيقية عند الحاجة.

ووضوح في الاتفاق دائماً ومنذ البداية على ما يهمك وما لا تقبله.

أمي وأبي تشاركا الإنفاق من أول يوم وتشاركا حساباً بنكياً and /or باسميهما وبعد سنوات طالبها بالاحتفاظ براتبها لنفسها ولم يغير الحساب حتى مات. وحسب المبلغ الذي ساهمت به طوال حياتهما وأودعه لها في حساب خاص بها.

كانت أمي لسبب لا أدريه تعجب بمعاطف الفراء جداً. وكانت تلك هديته لها حين عاد من إحدى الدول الأوروبية حيث كان يحضر مؤتمراً.

كما حرص على أن تعيش كريمة بعده وأهداها كما أهدانا نحن بناته وأوصانا 


ليست هناك تعليقات:

ظلم

سرعة الانفعال تشير إلى استجابة الأفراد بشكل سريع وعاطفي لمواقف معينة، مما قد يؤدي إلى ردود فعل غير محسوبة. إليك بعض النقاط المتع...