أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نصيب وافر، فيشهد المفضل الغلابي لاثنين من شباب الصحابة بأنهما من أزهد الأنصار، وهما عمير بن سعد وشداد بن أوس -رضي الله عنهما- فيقول:«زهاد الأنصار ثلاثة: أبو الدرداء، وشداد بن أوس، وعمير بن سعد».
ويشهد عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- لابن عمر -رضي الله عنهما -بالورع والتقوى فيقول :«لقد رأيتنا ونحن متوافرون وما فينا شاب هو أملك لنفسه من ابن عمر».ويشهد له بالزهد والبعد عن الدنيا إذ يقول:«إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبدالله بن عمر»
ويثنِّي على هذه الشهادة صحابي آخر هو جابر -رضي الله عنه- فيقول:«ما منا أحد أدرك الدنيا إلا وقد مالت به إلا ابن عمر». وهاهو طاووس رحمه الله يقول :«ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس». وقال :«ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لحرمات الله من ابن عباس». وقال ابن سعد عن قثم بن عباس -رضي الله عنه- :«وكان قثم ورعاً فاضلاً». إن الزهد أمارة على حقارة الدنيا في قلب صاحبها؛ الدنيا التي لا تعني المال وحده، بل هي كل متاع عاجل لا يعدو المال أن يكون واحداً من أصنافه وألوانه. والورع حاجز يحول بين المرء وبين كثير مما تدفعه له نفسه خشية الوقوع في المحظور وارتكاب الحرام، وما أهون الامتناع عن المعصية عند أولئك الذين يتورعون عما يشتبهون فيه ويلتبس أمره عليهم. والنفس أبية عصية تحتاج إلى مجاهدة وترويض، فهذه المراتب لا تكتسب بالتمني ولا تدرك بين يوم وليلة، بل هي نتاج تربية للنفس وأطر لها على الحق، وأخذ بزمامها عن الباطل.
الخوف من الله والبكاء من خشيته:
لقد أثنى الله تبارك وتعالى على الذين يبكون من خشيته ووصف عباده الصالحين الذين أوتوا العلم بأنهم ((يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً))( (الإسراء:109) ووصفهم بأنهم ((إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً)) (مريم: 58).
وجاءت السنة النبوية بفضله فمن ذلك: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم».
وحيث كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة لله بعد نبيها صلى الله عليه وسلم فقد كانوا من أرق الناس أفئدة، وأكثرهم دمعة، فمن ذلك ماذكره أهل السير عن عبدالله ابن حنظلة -رضي الله عنه- أن سمع قارئاً يقرأ ((ومن فوقهم غواش))(الأعراف: 41) فبكى حتى ظنوا أن نفسه ستخرج، ثم قام، فقيل: يا أبا عبدالرحمن، اقعد، فقال: منع من ذكر جهنم القعود، ولا أدري لعلي أحدهم.
ولم يكن أولئك -رضي الله عنهم- يقتصرون على الخوف وحده، فقد كانوا يجمعون بين الخوف والرجاء، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال:«كيف تجدك؟» قال:والله يا رسول الله أني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف». استعظام الذنوب: إن المؤمن التقي الذي يخاف ربه ويخشاه يستعظم معصيته، وتشق عليه وإن استهان بها الناس، وقد كان هذا الجيل المبارك يعيش هذا الشعور الذي يحدثنا عنه أحد الشباب وهو أنس بن مالك -رضي الله عنه- فيقول:« إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات». ويؤكد هذا المعنى شاب آخر هو أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- فيقول:«إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات». ويقف المسلم أمام هذا الأثر مشدوهاً متسائلاً. يقول ذلك أنس وأبو سعيد -رضي الله عنهما-للتابعين مصورين النسبة بين رؤية أولئك لذنوبهم ورؤية أصحاب النبي.،، ويتساءل في نفسه ماذا عسى أن تكون ذنوب أولئك التابعين؟ وكيف تكون النسبة بين رؤيتنا لذنوبنا وتقصيرنا وبين ذاك الجيل؟ وماذا عسى أنساً وأبا سعيد -رضي الله عنهما- أن يقولا لو رأيا ما نحن عليه؟ . ويصور آخر وهو عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- نفس المؤمن حين يواقع الخطأ هذا التصوير فيقول:«لنفس المؤمن أشد ارتكاضاً من الخطيئة من العصفور حين يقذف به». ولعلك تشاركني الفهم أن هناك فرقاً بين ما يراه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- خطيئة وبين ما نراه نحن كذلك. إن استعظام الذنب يتولد منه لدى صاحبه استغفار وتوبة، وبكاء وندم، وإلحاح على الله عز وجل بالدعاء وسؤاله تخليصه من شؤمه ووباله، وما يلبث أن يولد دافعاً قوياً يمكِّن صاحبه من الانتصار على شهوته والسيطرة على هواه. أما أولئك الذين يحتقرون الذنب فيشعر أحدهم بالندم ويعزم على التوبة، لكنها عزيمة ضعيفة سرعان ما تنهار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق