

ويبدو أن هذا التغير الأول في طابع العلاقة الجنسية كان من فعل النساء, ومن المؤكد أن هذا التغير لم يحصل فجأة, ولكنه كان انتصارا أحرزته النساء.
البارحة:
حصلت الثورة الثانية مع دخول الحب إلى الحياة الجنسية أو مع ولادة الغرام, كما نقول اليوم. وكان هذا تقدما على طريق الإنسانية بمثل أهمية تحرير العبيد. أنا أعترف صراحة أن الفرضية التي سأقدمها ليست قائمة إلا على عديد من التبصرات المستحصلة من التحليل النفساني لرجال ونساء زمننا. وإني لأزعم أن هذا التطور من فعل النساء. فقد علمن الرجال الحب مثلما عملن من قبل على تلطيف الهمجية في التعبير الجنسي الذكري. وإني لأتخيل أن معاملة النساء في الحياة اليومية كانت خشنة, وعلى الأقل لا مبالية, وإن الرجال كانوا يفضلون رفقة الرجال, وينظرون إلى النساء نظرة دونية ويعتبرونهن بمثابة موضوعات جنسية ومعاونات في العمل وحسب. كان الرجال ينالون إشباعهم بمجرد الامتلاك الجسدي للنساء, ولم تتغير الحياة الجنسية إلا بدخول العاطفة.
مع الحب جاء إلى العالم شيء جديد, تمكن مقارنته بظهور الإنسان بين الثدييات البدائية. ولا بد أن بعض النساء قد تمردن على اعتبارهن مجرد متاع للرجل, ولا بد أن ذلك خلق وضعا أفضل لتبرعم الغرام. وباعتقادي أن قلة من النساء المتفوقات أو مجموعة منهن, قد خلقن جوا انفعاليا في موقفهن من الرجال أثار توترا وحسدا وإعجابا نافرا كان بمثابة عنصر جديد في العلاقة بين الجنسين. فالنساء اللواتي كن في البدء مجرد موضوعات للإشباع الجنسي أو مجرد ضحايا لحافز الرجال غيرن الوضع إلى وضع صرن فيه موضوعات للتوق, ولم يعد الرجال يرغبون بهن جنسيا وحسب بل ويغازلونهن أيضا.
لقد شرعت النساء بالتمرد على رجالهن, وما عدن يستسلمن بحماقة وعدم اكتراث لرغبات الرجال الشهوانية, وأدرك الرجال أن النساء لم يعدن أدوات طيعة يعبثون بهن, وإنما صرن يبدين مقاومة تجاه القوة ولا يستسلمن لها إلا كارهات.
كان ثمة أمام الرجل طريقان مفتوحان لملاقاة هذا الوضع الجديد. إما أن ينال بالقوة ما بدأ يفقده من الإشباع, أو أن يسعى خلف نساء أخريات أكثر استعدادا للإذعان لرغباته, ولا شك أنه جرب كلتا الطريقين, ولقد ثبت أنهما غير مشبعين في نهاية المطاف, حتى ولو عملا على تسكين حوافزه الجنسية لبعض الوقت. وهكذا بدا استيهامه ينشغل بامرأة واحدة تتمنع عنه, أو تمنحه نفسها بسبب قوته الجسدية وحسب, بسبب عنفه. وعندئذ تعلمت النساء الطريقة لإشغال خيال الرجل. ولقد تعلمن أن يقدمن ويحجمن بحيث رسخت صورة المرأة الواحدة التي تتمنع وأثبتت أنها أقوى من واقع النساء الأخريات الخانعات. وكان على الرجال أن يتعلموا سلوك الطريق الصعب كي يتمكنوا من جني العسل لا مزيد من الخل, لكن دربهم إلى الحب كان وعرا.
خلقت المرأة وضعا يشتمل على كل الإمكانيات الانفعالية لولادة الغرام. عبق الجو بالتوتر, والعداء والحسد, وبرفضها منحها نفسها, اكتشفت المرأة الشرط اللازم لخلق التوق عند الرجل. ولا بد أنه شعر أن بمقدوره إعادتها إلى الخضوع والطاعة والتغلب على ممانعتها ومقاومتها إذا ما قام بما تريده. كان الرجل البدائي في وضع بائس. إنه يذكرنا بوضع كثير من الأزواج والعشاق الشباب الذين هم اليوم في وضع مشابه لوضعه. فهم وقد استعدوا للقيام بما يطلب منهم, لا يعرفون ما يتوجب فعله حين لا يطلب منهم فتراهم وقد سيطر عليهم العجز لافتقارهم إلى الشعور والحس تجاه الرغبات الصامتة.
وأصبح الحب والتقدير والإعجاب والتقييم العالي هو المنطلق الضروري من أجل الاستسلام لرغبات الرجل الجنسية. واصبح رفض إغواءاته الجنسية إن لم يكن قد تعلّم بعد أن يحبها باعتبارها شخصا, جزءا أساسيا من تكتيكات المرأة في المعركة بين الجنسين. وهنا بذرة الانفعال المشبوب الذي نلحظه اليوم وأرومة ما ندعوه بالغرام, وأود أن أشير - بكل تهذيب, بكل تهذيب- أن الحب, سواء كان خيرا أم شرا, هو من ابتكار السيدات وليس الرجال.
وهكذا فإن النساء كن شجاعات بما فيه الكفاية بحيث جازفن بكل شيء ليكسبن كل شيء, ولا شك أن دخول الحب إلى الحياة الجنسية قد مارس تأثيرا عجائبيا على تاريخ النوع البشري, شأن تأثيره على حياة أي رجل. لقد جاء كعنصر جديد ومسكر كي يرافق الإشباع الجنسي مرافقة جعلت التجربة الجنسية أعمق وأغنى وأسمى.
المودة هي عملية يسعى من خلالها شخصان لتحقيق نموها الشخصي في إطار علاقتهما. وهذه العملية بحاجة إلى الصبر والجهد والعناء من أجل إنجاح هذه العلاقات الزوجية.
ما هو الحب الحقيقي؟
هو أن تختار شريكك بالضبط كما هو, وأن تنحي غضبك جانبا أثناء خيارك, وتحاول إكساب هذه العلاقة مذاق السحر بدلا من التنقيب عن أسباب عدم جدواها, والحب هو أيضا دعم ومؤازرة شريكك في جميع خياراته وحثه على تحقيق رغباته وكل أحلامه التي يتمناها.
الحب الصادق هو تقدير صدق شريكك, وتمني الخير كل الخير له. ولكنه ليس تحكما أو امتلاكا بل احترام أسلوبه الفريد في الحياة والثقة فيه.. وهو الشجاعة على قول الحقيقة خاصة عندما تظن أنه لا يمكن التصريح بها لسواه.ويقصد بالحب الحقيقي معرفة حدود ما هو مسموح لك به واحترام حدود شريكك, والتخاطب بدلا من فرض الرأي, وطرح التساؤلات بدلا من الانتقال سريعا إلى النتائج, وهو يعني أيضا الوصول إلى قرارات مشتركة بدلا من الشجار, والشجار بدلا من الانفصال والتغلب على الخلافات وجرح المشاعر والإحباطات مع العلم بأنه يمكن التئام أي جرح من خلال الالتزام, ويعني كذلك البقاء حالما تريد إنهاء العلاقة واحترام التزامك باتخاذ قراراتك مع من وقع عليه اختيارك.والحب الحقيقي الصادق يعني التركيز على من تكن له الإعجاب وسبب امتنانك له والتركيز على الحلول بدلا من المشكلات والتركيز أيضا على شريكك وإعطائه الفرصة لمعرفة كيف تهتم به كل يوم, أي تقدير من تحب أن تتعامل معه كأمر مسلم به أو كقدر.
ويعني العيش دون أحكام بغية إيجاد نوع من الأمان للتصريح بالحقائق, وأن تعيش مع شريكك كل يوم وكأنه اليوم الأخير في حياتكما, والرغبة في أن تكون ذاتك وأن تعيشا في تناغم معا.
كيف تبدو العلاقة الحقيقة الصادقة؟ إنها تبدو كحقيقة وواقع, فهي تزدهر بالإخلاص وتتألق بالحقيقة, وتتميز هذه العلاقة بالمرونة, فهي تنحني أمام الاحتياجات والتغيرات المتقلبة لدى كل شريك, وتطيح بأية صعاب قد تصادفهما, ويلتزم كلا الشريكين بالعمل على تحقيق النمو والازدهار لكليهما طوال حياتهما, فبشكل مجازي هذه العلاقة تشبه الماس فهو يتلألأ كالبريق ويشع طالما أن قلبه صلب متين, فهو المحتوى والمجال الذي سينمو فيه الحب.
وبالطبع فإن هذه هي الصورة المثالية للحب, وتكمن المتعة الحقيقية والفرصة في الوصول إلى هذه الرؤية, فالحب قوة عارمة من شأنها أن تطيح بالصواب والحكم الصائب بينما يعد الشعور بالحب الجديد من متع الحياة هو أيضا تحديا, حيث تتذكر الحقائق الخاصة بكيفية الارتباط وسط شعورك بالخفة والدعة.
القانون الأول: يجب أن تحب ذاتك في المقام الأول
صلب علاقتك كلها هو علاقتك بذاتك, فمن شروط إيجاد رابطة حب حقيقية ناجحة مع شخص آخر أن تحب ذاتك أولا.القانون الثاني: أن يكون لك شريك هو خيارك
أن يكون لك علاقة مع آخر هو أمر متروك لك. فلديك القدرة على جذب شريكك والدخول معه في العلاقة التي ترغبها.
القانون الثالث: الحب عملية تتكون من خطوات
التحول من "أنا" إلى "نحن" يتطلب تغييرا في المفهوم والطاقة؛ فالتحول إلى ثنائي حقيقي يعد تقدما في حد ذاته.
القانون الرابع: تبادل العلاقات سينمي الشخصية
إن ما تقيمه من علاقات هو بمثابة "مدرسة للحياة" تتعلم فيها أشياء عن نفسك وكيف يمكن لشخصيتك أن تنمو وتنضج.
القانون الخامس: التواصل يعد أمرا جوهريا
التبادل الصريح للأفكار والمشاعر هو قوام الحياة في علاقتكما.
القانون السادس: التفاوض أمر مطلوب
سيكون هناك أوقات يتعين عليك وعلى شريكك مناقشة العراقيل التي تعترض طريقكما. إذا فعلت ذلك عن وعي واحترام, ستتعلم كيف تحصل على نتائج تعود بالنفع على كليكما.
القانون السابع: علاقتك العاطفية ستكون عرضة لتحدي التغيير
لا تسير الحياة في خط مستقيم, وكيفية تعاملك مع تقلبات الحياة هي التي تحدد مدى نجاح علاقتك.
القانون الثامن: عليك أن تغذي العلاقة لتزدهر
قدر من تحب وستزدهر علاقتكما.
القانون التاسع: التجديد هو سر طول العمر
السعادة الدائمة تعني القدرة على إبقاء العلاقة متجددة وحيوية.
القانون العاشر: سوف تنسى كل ذلك لحظة أن تقع في الحب
أنت على علم بكل هذه القوانين بصورة متأصلة, والتحدي هنا أن تتذكرها عندما تقع في الحب.• إن الحب شيء لا يُملك، وإنما هو أمر بيد الله، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يحاسبنا الله على أمر يملكه هو ولا نملكه نحن؟!
• وورد لفظ الحب كثيرًا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة: أي إنه لم يكن شيئًا يعاب الحديث عنه.
• إن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب السيدة عائشة حبًا مختلفًا عن باقي أزواجه من أمهات المؤمنين وأخبر عن ذلك أنه شيء يملكه الله ولا يملكه هو صلى الله عليه وسلم. إذن فالحب في ذاته ليس حرامًا ولا عيبًا ولا مرضًا ولا ضعفًا من وجهة نظر الإسلام؛ لأنه لا يجوز أي شيء من ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم.
• إن الرسول صلى الله عليه وسلم وجه أصحابه عند انتوائهم خطبة إحدى النساء أن ينظروا إليها، وأن المقصود بذلك النظر المتتابع؛ حتى ولو كانت لا تعلم ذلك، فكان من الصحابة من يطاردها طردًا شديدًا، وكان هناك من يختبئ لها وراء شجرة.
• ومما لا شك فيه أن ذلك النظر المتتابع قد يؤدي إلى الحب من الطرف الناظر، وقد لا تتم الخطبة لظروف ما غالبًا ما تكون رفض أهل الطرف الآخر. وربما تتم الخطبة فتدعم الحب لدى الطرف الناظر. وهناك فروض أخرى لا داعي للاستطراد فيها تؤدي إلى ألا يتم الزواج وينقض الموضوع كله. فهل في هذه الحالة يكون شعور الطرف الأول بالحب، وهو أمر لا يملكه، حرامًا مهما كان مصير الطرف الآخر؟ لا يمكن أن يجيب عاقل عن ذلك إلا بالنفي؛ لأن الله لا يحاسبنا على ما لا نملك.
• حديث مغيث وبريرة يحسم أمورًا كثيرة:
أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم تعاطف مع المحب ولم ينهه عن حبه.
ثانيًا: الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ تعاطفه مع المحب أن تشفع له بنفسه عند من يحب، وهذا أمر تثقل دونه الجبال.
ثالثًا: الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه مغيثًا عن حبه لبريرة حتى بعد أن رفضت بريرة الزواج منه. أي إنه لم يُحرِّم حبه لها. وكيف يُحرِّم هذا الأمر وهو يقول عنه إنه لا يملك؟!
رابعًا: إن مغيثًا كان يمشي وراءها ويبكي، وليس من المعقول أنه كان يمشي وراءها مغمض العينين. إذن هو كان ينظر إليها، ويراها، ولم ينهه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو أمر لم يتركه صلى الله عليه وسلم إلا مع هذا المحب، وهو أمر يرتبط بالمحب ارتباطًا لاإراديًا؛ فلا يستطيع المحب أن يمر من يحبه أمامه ولا ينظر إليه.
خامسًا: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟!" قول لا يكاد يكون له مثيل. أفلا يكون ذلك مستندًا لنا في أن الحب أمر عجيب وسر من أسرار الله؟! وسنعود إلى هذا الحديث في أمور أخرى إن شاء الله.
• ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أنه ليس للمتحابين مثل الزواج؛ فإنه ليس فقط يفضل للفتاة المسلمة خطبة المعدم الذي تحبه على الموسر الذي يريده أهلها، على نحو ما رأينا في أحد الأحاديث النبوية الشريفة، ولكنه في حديث آخر يهدر نكاح الأب الذي زوج ابنته لشخص هي كارهة له. وإهدار الرسول لهذا الزواج يعني أنه جعله كأن لم يكن، وزوّجها ممن تحب. ولو قلنا نحن هذا الكلام بعد أربعة عشر قرنًا مما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم لو قلناه فقط باللسان ولم نفعل ما فعل – مع أننا مأمورون باتباعهم والاقتداء بهم أساسًا في مواقفهم من هذه القضايا الكبرى التي تصنع مصائر البشر، وليس مجرد الاقتداء بهم في الأمور الشكلية فقط- لاتهمنا اتهامات نحن منها براء.
• قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" (رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم) يقرر حقيقة قامت عليها النظرية الإسلامية في الحب في التراث الإسلامي كله، وهي حقيقة أن الحب يقوم على المشابهة الروحية بين المحب والمحبوب على قدر من الخلاف بين أئمة المسلمين في تفسير هذه النظرية.
• تفسير بعض السلف قوله تعالى إخبارًا عن المؤمنين: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" (البقرة: 286) بالعشق، كما أخبر بذلك ابن القيم في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"؛ لأن العشق مما لا طاقة للعبد به –كلام فيه نظر؛ لأننا لو دققنا في الأمر لوجدنا أن المقصود ليس الحب في ذاته، ولكن وجود الحب مع الحرمان من المحبوب؛ لأن الأحاديث -كما ذكرنا في البند الثاني- أثبتت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب فكيف يتفق ذلك مع دعوة المؤمنين لله بألا يحملهم ما لا طاقة لهم به، ولم يكن الله ليحمل الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا طاقة له به؟!
إذن المقصود هو ألا يحملهم الله الحب مع الحرمان من الحبيب؛ فذلك هو ما لا طاقة للإنسان به. فليس هناك من يدعو الله بألا يحمله الحب مع وجود المحبوب، ولكن ألا يحمله الحب مع الحرمان من المحبوب. ولم تكن هناك مشكلة لدى مغيث في حب بريرة وهو زوجها، ولكن المشكلة أتت مغيثًا من استمرار حبه لها، وهو أمر لا يملكه، في الوقت الذي كان قد فقدها فيه.
• حديث عائشة "أريتك في المنام" يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب عائشة قبل أن يتزوجها.
• ذكرت الأحاديث عن المرأة أنها تحب وتريد أن تتزوج ممن تحب، ولا عيب في ذلك. وكلنا نذكر تقدم السيدة خديجة لخطبة الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام ابن حزم في كتابه طوق الحمامة: "الحب أعزك الله أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تدرك حقيقتها إلا
ثم يوضح أنه لا يقصد بذلك المشابهة في الشكل أو الأخلاق ولكن في ذات النفس، فيقول مشيرًا إلى كلامه السابق: "كل ذلك معلوم بالفطرة في أحوال تصرف الإنسان وزوجه؛ فيسكن إليها. والله عز وجل يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189)، فجعل علة السكن أنها من خلقه [لاحظ جيدًا مدى ما يستحقه هذا النص القرآني من تأمل]. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحب الأنقص من الصورة [أي لا يحب الإنسان الأقل منه جمالاً]. ونحن نجد كثيرًا ممن يؤثر الأدنى [يفضل الأقل جمالاً]، ويعلم فضل غيره، ولا نجد متحيدًا لقلبه عنه. ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه [أي من لا يتوافق معه في الأخلاق والطبع]، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس [أي المشابهة في الجوهر الداخلي لنفس الإنسان].
وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنى بفناء سببها [أي تنتهي بانتهاء سببها]؛ فمن وده لأمر ولى مع انقضائه" أ هـ.
ويعدد ابن حزم بعض ضروب المحبة وعلاقتها بأسبابها: محبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها [أي أن كل هذه الأنواع من الحب تنقضي بانقضاء السبب المتعلقة به، وتزيد مع زيادته وتنقص مع نقصانه]، حاشى محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلا بالموت [أي أنه يستثني من ذلك العشق الصحيح المتمكن من النفس، وهو يرى -وانتبه لهذا القول– أنه لا يفنى إلا بالموت].
ثم يقول الإمام ابن حزم: "فصحب ذلك أنه استحسان روحاني وامتزاج نفساني. فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبة بينهما مستوية؛ إذ الجزءان مشتركان في الاتصال وحظهما واحد [أي أن هناك اعتراضًا يقول بأن بعض المحبين لا تتساوى محبتهم مع محبة من يحبونهم]. وللجواب عن ذلك نقول: هذا لعمري معارضة صحيحة، ولكن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية [أي معزولة عن حقيقة جزئها الآخر بما يحيط بها من تعلقات أرضية]، فلم تحس بالجزء الذي كانت تتصل به قبل حلولها؛ حيث هي لو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة، ونفس المحب متخلصة [أي غير محاطة بالمتعلقات الأرضية التي تحجبها عمن تحب] عاملة بمكان ما كان يشركها في المجاورة [يقصد ما كان يشركها في العالم العلوي]، طالبة له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكنها كالمغنطيس والحديد.
ومن الدليل على هذا أيضًا أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية [أي الصفات الداخلة في تكوينهما النفسي]؛ لا بد من هذا وإن قل. وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة، وتأكدت المودة [أي كلما زادت المشابهة بين صفاتهما النفسية زاد التقارب وتأكدت المودة بينهما]. فانظر هذا تراه عيانًا، وهناك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" (سبق تخريجه).
ولو توقف الإمام ابن حزم في نظريته عند حدود تفسير تعلق أرواح المحبين بسبب المشابهة في ذوات نفوسهم؛ لاستطاع أن يكسب الكثير من الاطمئنان إلى نظريته، ولكان بذلك شديد القرب من النصوص التي يُستدل بها. أما حكاية أن الجزء كان متصلا بالآخر قبل حلوله في عالم الأرض؛ فهو أمر لم يقدم أدلة عليه سواء كان بالنقل (وهذا أمر عقائدي يجب الاستدلال عليه بالنصوص)، أو بالعقل.
ثم يقول الإمام ابن حزم: "أما العلة التي توقع الحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة [أي أما حكاية أن الحب يقع دائمًا على الصورة الجميلة]. فالظاهر أن النفس الحسنة تُولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة؛ فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه [أي إذا رأت الجمال تعلقت به]، فإن ميزت وراءها شيئًا من أشكالها [أي إذا رأت وراء هذا الجمال شيئًا يتشابه مع صفاتها النفسية] اتصلت به، وصحت المحبة الحقيقية. وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة [أي إذا لم تجد وراء الجمال شيئًا يتفق مع صفاتها لم تتجاوز حبها الجمال الخارجي إلى ما بداخل النفس من صفات روحية؛ ولذلك يكون تعلقها اشتهاءً جنسيًّا وليس حبًا].: "الأرواح جنود مجندة.. ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"، وأصل الحديث في الصحيح. وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا بينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد. فإذا اختلفت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النُفرة والبعد بين القلوب.
وأما عن مصدر المشاكلة والاتفاق بين الزوجين فهذا لا يكون إلا من الجانبين ولا بد. فلو فتش المحب -المحبة الصادقة- قلب المحبوب لوجد عنده من محبته نظير ما عنده أو دونه أو فوقه (لاحظ مدى إصرار الإمام ابن القيم ومن قبله الإمام ابن حزم على مسألة حتمية حب المحبوب لمحبه).
ودواعي المحبة تجتمع معًا فمتى كان جميل الصورة جميل الأخلاق والشيم والأوصاف كان الداعي منه أقوى. وداعي الحب من المحب أربعة أشياء:
أولها النظر. والنظر إما بالعين، وإما بالقلب إذا وُصف له. فكثير من الناس يحب غيره، وفني فيه محبة وما رآه، لكن وُصف له. ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة أن تنعت لزوجها المرأة حتى كأنه ينظر إليها، والحديث في الصحيح.
وثانيها: الاستحسان. فإن لم يورث نظره استحسانا لم تقع المحبة.
وثالثها: الفكر في المنظور وحديث النفس به، فإن شغل عنه بغيره مما هو أهم عنده منه لم يعلق حبه بقلبه، وإن كان لا يعدم خطرات وسوائح [أيتبقى له من حبه خطرات وسوائح].
ورابعها: الطمع في وصل هذا المحبوب.
فإذا وجد النظر والاستحسان والفكر والطمع؛ هاجت بلابله وأمكن من معشوقه مقاتله واستحكم داؤه، وعجز عن الأطباء دواؤه.
وفي سياق شرح الإمام ابن القيم لنظريته في الحب يورد مسألة أثر الجماع [والمقصود به هنا العملية الجنسية على وجه التحديد] في الحب هل يطفئه؟ أم يزيد من قوته؟ الحب شعور انفعالي، وليس فعلا اختياريا؛ ولذا لا تتعلق به الأحكام الشرعية من حرمة أو وجوب أو كراهية.. ومن المعلوم أن الأحكام التكليفية إنما تتعلق بما هو داخل في وسع الإنسان لقوله عز وجل: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". فالشارع - جل جلاله- لا يقول لك: لا تحب، ولكن يقول إذا أحببت فلا تنحرف. ولا يقول لك: لا تكره، ولكنه يقول: إذا كرهت فلا تظلم، ولا يقول: لا تجع، ولكنه يقول إذا جعت فلا تسرق. ومن هنا ندرك أن على الإنسان إذا أحب أن لا يستسلم لدوافع حبه في نطاق السلوكية والتصرفات الاختيارية إلا ضمن حدود الشريعة وأحكامها التكليفية المعروفة.
إذن من المهم أن نعرف أن الحب ليس عيبًا ولا حرامًا؛ بل هو شعور قسري لا يتعلق به تكليف ولا يدخل في نطاق الأحكام أو المحظورات، فالإسلام ليس له انتقاد على الحب، ولكنه ينتقد الانحرافات التي يقود إليها هذا الحب. وقد صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تقل أو تفعل"، غير أن مشاعر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق