لو فرضنا تلّة, عليها قصر فخم جداً، وإنسان يسير على قدميه, والطريق وعرة, ليتملّك هذا القصر، وإنسان يركب أفخر مركبة, وهو سينتهي به المطاف إلى أن يُعدم، في الظاهر هذا يركب مركبة فخمة جداً, لكن مصيرهُ معروف، وهذا الذي يمشي على قدميه, ويبذل جهداً كبيراً, سيكون نزيلاً لهذا البيت الفخم وسيتملّكهُ، لو التقيا في الطريق, أيقول الذي يركبُ المركبة الفخمة لهذا الفقير: ما أسوأ حظك؟ أيقول هذا الفقير لهذا الذي يركب المركبة: هنيئاً لكَ المركبة؟ لا, لِجهلِ كُلٍ منهما بمصيرهِ, يتمنى هذا أن يكونَ مكانَ هذا, وهذا يزدري هذا, بسببِ جهلِ كُلٍ منهما مصيرهِ، أما المؤمن قولاً واحداً: لا يتمنى أن يكون مكانَ أهلِ المعصية, ولو كانوا في أعلى درجات النعيم والرفاه والغِنى والقوة .
ما هو الحق في هذه الآية؟ :
آية ثانية, يقول الله عزّ وجل:
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾
[سورة النمل الآية: 79]
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾
الحق هو اليقين:
﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾
[سورة المدثر الآية: 47]
﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾
الموت يقين والحق يقين .
لماذا ييأس الإنسان وكيف يخرج من هذا اليأس؟ :
الإنسان لماذا لا يتوكل؟ الآن: الإنسان يمرض مرضاً عضالاً, لماذا ييأس؟ لأنه ليسَ موقناً أنَّ الله قادرٌ على شِفائه, ضعف يقين, لو أيقنَ أنَّ الله يشفيه, مهما يكن مرضهُ عُضالاً, لَمَا أصابه اليأس أبداً، الفقير لماذا ييأس؟ لأنَ يقينهُ بأنَّ الله بقدرته أن يُغنيه, ضعيف هذا اليقين، لو أيقنَ لَمَا يئس، أخطر أمراض النفس: اليأس, والقنوط, والكآبة, والسوداوية .
قرأتُ كلمةً أعجبتني: يارب لا كربَ وأنتَ الرب, لا كرب مع وجود الرب, أنتَ عبدهُ, وباب التوبة مفتوح, باب العطاء مفتوح .
إذاً:
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾
ماذا يحل بالقلب إذا وصل إليه اليقين؟ :
قال العلماء: إذا وصلَ اليقين إلى القلب, امتلأَ نوراً وإشراقاً, وانتفى عنهُ كلُّ ريبٍ وسخط وهمٍ وغم, فامتلأَ محبةً للهِ, وخوفاً منهُ, ورِضىً به, وشُكراً له, وتوكّلاً عليه, وإنابةً إليه, فهو مادةُ جميع المقامات والحامل لها ".
يقول الجُنيد: اليقينُ هو استقرار العِلم .
ماذا نستنتج من هذا المثال؟ :
مثل أدعهُ بينَ أيديكم: الإسمنت يُفحص في المعامل بمتانتهِ, هوَ يتحمل قِوى الضغط بشكل كبير جداً بالسنتيمتر مكعب من الإسمنت, يتحمّل بالمواصفات القياسية الصحيحة خمسمائة كيلو, نصف طن, لو وضعنا نصف طن على سنتيمتر مكعب من الإسمنت, لتحملّها قبل أن ينسحق نصف طن، في المواصفات الوسط 200 كيلو، أما يُفحص الإسمنت بالشد، تُصب مكعبات من الإسمنت، تُلقط بملاقط من الأعلى، وملاقط من الأسفل، الملقط السُفلي ككفة الميزان, يوضع الكيلو, يكسر في نوع, لا ينكسر إلا على 2 كيلو, في نوع على ثلاثة, على أربعة, على خمسة، تُمتحن قوة تماسك الإسمنت على أيِّ وزنٍ يُكسر هذا المُكعب، هذا المثل لو طبقناهُ على المؤمنين, تجد مؤمناً إيمانهُ وسط, أما على إغراء معيّن, أو على ضغط معين, تضعُف هِمتهُ, وانساق مع شهوتهِ, وتخلّى عن طاعتهِ لربهِ .
إذاً: هذا المؤمن يقينه ضعيف, كُلما زادَ اليقين زادَ التماسك، فالمؤمن الصادق مهما ألّمت بهِ المِحن, ومهما ضاقت عليه الدُنيا, ومهما تلّقى ضغطاً كبيراً, ومهما تعرّضَ لإغراءٍ شديد.
إلهي أنتَ مقصودي ورِضاكَ مطلوبي .
كُلما ارتفعَ اليقين, ارتفعَ التماُسك, وارتفعَ الصمود, يعني باللغة التي نستعملها: يصمدُ أمام كلِّ إغراء, وتحتَ أيِّ ضغط، والإنسان أحياناً ينهار لضغطٍ قليل أو لإغراءٍ قليل، فإذا انهارَ إيمانه لضغطٍ أو لإغراء, معنى ذلك: يجب أن يُعيدَ حساباتهِ كُلها, فإيمانهُ ضعيف .
قف عند هذه الأحاديث :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَنَّ عِبَادِي أَطَاعُونِي, لأَسْقَيْتُهُمُ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ, وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ, وَلَمَا أَسْمَعْتُهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ, وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ, وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ, قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ))
ماذا يمثل لنا هذا البيان؟ :
قال: اليقين هو استقرار العِلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغيّر في القلب, وقالَ أبو بكر الورّاق: اليقين مِلاكُ القلب, وبهِ كمالُ الإيمان, وباليقينِ عُرِفَ الله, وبالعقلِ عُقِلَ عن الله، واليقين على ثلاثة أوجه, ثلاثة أنواع؛ يقين خبر، ويقين دليل، ويقين مشاهدة . لو فرضنا في جدار, قال لكَ إنسان: وراء هذا الجدار نار, هذا الإنسان صادق عندك, هذا يقين خبر, بعد قليل رأيتَ الدُخان يتصاعد, لا دُخان بِلا نار, صار في عنّدنا دليل ، كان في معك يقين إخباري, صار معك يقين استدلالي, توجهّتَ نحو الجدار, والتففت وراءَ الجدار, فإذا النار تشتعل، صار معك يقين شهودي، من اليقين الإخباري, إلى اليقين الاستدلالي, إلى اليقين الشهودي.
أنواع اليقين :
1-يقين خبر :
فاليقين إذاً أنواعٌ ثلاثة: يقين خبر سكون القلب إلى خبر المُخبر وتوثّقهُ به.
يعني إذا كان المُتكلّم صادقاً, فأنتَ تثِقُ بكلامهِ وتُصدّقهُ, فهذا يقينُ الخبر, فإذا كان الله هو المُتكلّم, خالق الكون, وإذا كانَ هذا الكلامُ قرآن, وإذا كانَ هذا الكلامُ حديثاً لرسول الله متواتِراً صحيحاً, هذا يقين إخباري, ويكفي المؤمن دليلاً أو دافعاً لتطبيق أمرِ الله أنهُ أمرُ الله ، الإنسان إذا بحث عن حِكمة لا بأس, ليُعلّمَ الناسَ الحِكمة, ولكن إذا أيقنَ أنَّ هذا أمرُ الله, ولو لم يفقه الحِكمة, يكفيهِ دافعاً إلى تطبيق أمر الله عزّ وجل .
2-يقين الدلالة :
المستوى الثاني: يقين الدلالة، فإذا جاءت حقيقة مع البُرهانِ عليها, ربنا عزّ وجل قال :
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾
[سورة طه الآية: 14]
قال لكَ:
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾
لكن في آيات أُخرى قال:
﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
[سورة يونس الآية: 101]
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾
[سورة الغاشية الآية: 17-20]
إذاً: ربنا عزّ وجل معَ أنهُ خالقٌ, ورب, ومُسيّر, وموجود, وواحد, وكامل, أعطاكَ الأدلة على وجوده، والأدلة على كماله، والأدلة على وحدانيته، فأنتَ في الآيات الكريمة, عِندكَ يقين إخباري ويقين استدلالي .
3-يقين المكاشفة :
أما الدرجة الثالثة: يقينُ المُكاشفة، مرة ثانية: إنسانٌ تثقُ بكلامهِ إلى أقصى الحدود, أخبركَ أنَّ وراء الجدارِ ناراً، رأيتَ الدخان يتصاعد, قلتَ: لا دُخانَ بلا نار يقين استدلالي، توجهّتَ نحو الجدار, ورأيتَ النارَ تشتعل, هذا يقين شهودي, والمؤمن يرتقي من يقينٍ إخباري إلى يقين استلالي, إلى يقين شهودي .
نقطة هامة :
لكن بالمناسبة: ما كلُّ مفردات الإيمان يمكن أن تكونَ شهوداً، وما كلُّ مفردات الإيمان يمكن أن تكونَ استدلالاً، بل إنَّ من مفردات الإيمان ما هو إخباري محض, فالحديثُ عن الجنةِ والنار، والجِنِّ والملائكة، والصراط والميزان، والبرزخ والقبر وعذاب القبر، والحديثُ عن الأزل, عن جمعِ النفوس في الأزل، هذا كلهُ يقين إخباري, ولن يكونَ شهوديّاً ولا استدلالياً.
تبقى في الإيمان مفردات, يبقى اليقينُ بها يقيناً إخباريّاً, لذلك: الذي لا يستطيعُ عقلُكَ أن يصلَ إليه, يجبُ أن تُصدّقَ بهِ، الذي لا يستطيعُ عقلُكَ أن يصلَ إليه استدلالاً, إذا آمنتَ باللهِ عزّ وجل يقيناً استدلالياً, عندئذٍ تؤمن بما أخبركَ اللهُ به تصديقاً .
في الإيمان: إيمان تصديقي وإيمان تحقيقي، بعضُ مفردات الإيمان لا يُمكن أن تؤمنَ بها إلا تصديقاً؛ كالإيمان بالجِنِ مثلاً, أو الإيمان بالملائكة, قال الله عزّ وجل في آيات كثيرة عن الملائكة, إذاً: أنتَ مؤمن بالملائكة إيمان تصديقي .
الآن: إذا ارتفع المؤمن إلى مستوى الإيمان الشهودي, أو يقين المُكاشفة, أو اليقين الشهودي, بحيثُ يصير المُخبرُ به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم, إنني أراك .
قال: يا زيد عرفتَ فالزم, إني لكَ ناصحٌ أمين, كيفَ أصبحت؟ أصبحتُ بعرش ربي بارزاً, وكأني بأهلِ الجنة يتنعمون, وبأهل النارِ يتصايحون.
يعني بلغَ إيمانهُ مرتبة الشهود .
قال بعضهم: رأيتُ الجنة والنارَ حقيقةً, قيلَ: وكيف؟ قال: رأيتُهما بعيني رسول الله .
ما يتميز به النبي عن أمته :
بالمناسبة: كلُّ المؤمنين من دون استثناء إيمانهم بالجنة والنار إيمان إخباري، يقين إخباري، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإيمانهُ بالجنة والنار إيمانٌ شهودي, لأنه في الإسراء والمعراج, أكرمهُ الله عزّ وجل بأن أطلعهُ على ما سيكون، رأى بأُمَ عينه أهلَ الجنةِ وأهلَ النار, وأحوالَ أهل الجنة وأحوال أهل النار، النبي وحدهُ إذا تكلّمَ عن الجنة وعن النار يتكلّمُ عن مُشاهدة .