الاثنين، 19 أغسطس 2013

الزنا

القول الأحوط والأقطع لشافة الفساد وهو مروي عن جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- منهم أم المؤمنين عائشة وابن مسعود والبراء بن عازب فقد روي عن كل من هؤلاء أن من زنى بامرأة ثم تزوجها فهما زانيان أبدا وهو الملائم لقاعدة (من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه)
وهذا هو الذي يتفق مع ما أشار إليه الكتاب العزيز من روح العلاقة الزوجية حيث قال تعالى "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" فالعلاقة الزوجية سكون وطمأنينة وأنى يسكن قلب رجل أو امرأة إلى من بلاه بنفسه وقاسمه الفحشاء ؟ أتعزب عن أحدهما تلك الساعات الماجنة التي انغمسا فيها جميعا في حمأة الرذيلة وتعاطيا فيها كؤوس الهوى استجابة لنداء الشيطان ؟ أولا يمكن أن تكون بين أحدهما وبين آخر نفس تلك العلاقة الشهوانية التي كانت بينهما من قبل ؟ أولا تنتاب كلا منهما هذه الوساوس فتقض عليه مضجعه وتؤرق ليله وتشغل نهاره ؟ بلى وألف بلى ولا يماري في ذلك إلا غمر أو غوي .ولا ريب أن إباحة التزاوج بين الزانيين يفتح باب الفحشاء على مصراعيه عند عباد الشهوات ما دام الأمر ميسورا إلى هذا القدر بحيث يمكن للشاب والفتاة أن يلتقيان في ظل الفحشاء وعلى بساط الشهوات فيستمتعا ما شاء الله ثم يختتما صفحتهما بالزواج وكم من ذئب من ذئاب البشر افترس العديد من الفتيات بمخالب هذا الأمل الخادع فرزأهن في أغلى شيء في حياتهن ثم رفسهن برجله باحثا عن أخريات بعدما كانت كل واحدة منهن تأمل بأن يكون في يوم من الأيام شريك حياتها وفارس أحلامها . فإذا بهذا الأمل الحلو الذي كان يداعب خيالها باستمرار يتحول إلى ألم مر وهم يملأ جوانب الصدر يقض عليها ليلها بعد أن رزأها في كرامتها وخلف في حشاياها جنينا إما أن يواجه الدنيا منبوذا هجينا وإما أن تكون نهايته الوأد في مصحات الإجهاض . أوليس مثل هذا القول الصارم هو الترياق النافع لمثل هذا التلاعب بالأعراض والتغرير بأمثال هذه الفتيات الأغمار ، خصوصا في هذا العصر الذي استشرى فيه داء الفساد ففتك بالفضيلة وأمات الأخلاق؟
على أن باب سد الذرائع من أبواب الفقه الواسعة التي تتسع لكثير من القضايا ، وقد ولج منه كثير من الفقهاء منذ الصدر الأول لعلاج كثير من المشكلات . هذا ومما يجب أن لا يعزب عن البال أن الرابطة الزوجية رابطة مقدسة يجب أن لا يحوم حولها دنس وأن لا تلتصق بها ريبة ، وفي مواقف السلف الصالح العديدة من القضايا ما يؤكد ذلك.
ففي موطأ الإمام مالك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرق بين رجل وامرأة تزوجها واقترن بها قبل انسلاخ عدتها وقال "لا يجتمعان أبدا" وقد أخذ هذا مالك والليث والأوزاعي ونص ما في الموطأ من حكم عمر في ذلك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما ثم قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا"
وذكر العلامة أبو الوليد الباجي في شرحه "المنتقى" على موطأ مالك أن القول بتأبيد تحريم المدخول بها في العدة على الداخل بها قاله أيضا أحمد بن حنبل واستدل له الباجي بحكم عمر -رضي الله عنه- وأتبع ذلك قوله : وكانت قضاياه تسير وتنشر وتنقل في الأمصار ولم يعلم له مخالف أنه إجماع . قال القاضي أبو محمد : وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره وهذا حكم الإجماع .
وليس هذا فحسب بل لمالك قول بتحريمها عليه ولو دخل بها بعد العدة وهو منصوص عليه في المدونة بل حكى ابن الجلاب عنه أنها تحرم عليه بمجرد العقد نقل ذلك القرطبي
وإن كان هذا الحكم في وطء بني على عقد وإن كان غير صحيح بل في نفس العقد غير الجائز فما بالك بالزنى الصريح أليس أحق بالحرمة الأبدية مع لزوم الحد الشرعي به ؟
وقد علمت أن عمر -رضي الله عنه- لم يقم الحد الشرعي على اللذين فرق بينهما فرقة أبدية لتزاوجهما في أثناء العدة بل اكتفى بتعزيرهما للشبهة الحاصلة . وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال في المتلاعنين "لا يجتمعان إلى يوم القيامة" وإذا كان هذا الحكم في اللعان مع إمكان أن تكون المرأة بريئة فكيف بالزنى ؟أما ما يروى من أن : أوله سفاح وآخره نكاح . فهو محكي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وليس عن عائشة والله أعلم بصحته فالأولى أن يحتمل على ما لو زنى رجل وامرأة في جاهليتهما فإن زناه بها لا يحرمها عليه في الإسلام لأن الإسلام جب لما قبله وعلى أي حال فإنه قول موقوف على صحابي خالفه غيره من الصحابة فلا تنهض به حجة . وحديث " لا ينكح المجلود إلا مثله" لا يقتضي بحال حصر النكاح في الذي جلد بسببه حتى يعد دليلا على جواز نكاح الزاني للمزني بها وإنما يعني أن المحدود على الزنى ليس كفءا لغير المحدودة.
وأما قياس الزنى على السرقة من البستان فكما لا يحرم على السارق شراء البستان الذي سرق منه لا يحرم كذلك على الزاني أن يتزوج مزنيته فهو قياس فاسد للبون الشاسع بين الأصل والفرع فإن الإنسان لا يحرم عليه امتلاك بستان سرق منه أبوه أو ابنه ويحرم عليه تزوج المرأة التي زنى بها أحدهما ويجوز له أن يمتلك بستانا كان ملكا لأبيه أو ابنه ولا يجوز له أن يتزوج من كانت حليلة لأحدهما .
هذا والزنا المحرم هو الذي يجب به الغسل ويثبت به الحد الشرعي وهو غيبوبة الحشفة أو مثلها من فاقدها في فرج المرأة والله أعلم. انتهت فتوى سماحة الشيخ المفتي يحفظه الله ويرعاه .
وبجانب ذلك أنقل إليكم هذا الكلام النفيس الذي سطره يراع المفكر الكبير على يحيى معمر في كتابه القيم ( الإباضية في موكب التأريخ ) من ص 111 - 114 ونص كلامه :
لقد كانت طبيعة الحياة في الأمة المسلمة لا تبيح للمرأة أن تختلي برجل أجنبي عنها ، ولا تبيح لرجل أن يختلي بامرأة أجنبية عنه، وذلك خوفا من الفتنة، لأن الدوافع الجنسية قد تتغلب على النفس عند الرجل وعند المرأة وهما مختليان، فيصلان إلى المحذور ويقع السوء الذي منه يحذران، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال ( إياكم والخلوة بالنساء والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ) وفي رواية ( دخل الشطان بينهما ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس بينه وبينها محرم )
ولكن واقع الحياة كثيرا ما يجعل المرأة في طريق الرجل أو الرجل في طريق المرأة ،بضرورة من الضرورات، فيلعب الشيطان بينهما دوره، ويحاول أن يخدعهما عن نفسيهما، ويمهد لهما سبيل اللقاء الأول، ويبسط لهما وسائل العذر لارتكاب الفاحشة ، فيمنيهما بأن يربط بينهما عرى الزواج في المستقبل، فيعد الرجل المرأة بالزواج، ويغريها بالأحلام الضاحكة، من تكوين العش والأسرة، والهناء المنزلي القار، حتى تطمئن إليه، ويخيل إليها أنها ستبدأ مكانها الجديد ، وأنها قربت من تحقيق الحلم العذب، فتسلم إليه نفسها، وتتم لعبة الشيطان قبل أن يتم الزواج .
وأمثال هذه الحالة موجود وكثير، وفي اغلب الأحيان لا يكون الرجل جادا في وعده للفتاة بالزواج، وقد يكون جادا، ولكن ظروفا أخرى لا يملك السيطرة عليها تحول دون ذلك الزواج، وينتج عن ذلك خسران في الدين وفضيحة في المجتمع ، وضياع لفتاة يمكن أن يصان شرفها بشيء من الحكمة ، وتعالج بعض المذاهب الإسلامية هذه المشكلة بفرض إتمام الزواج بين الفتى العابث والفتاة المخدوعة .وفي هذا العصر الذي انطلقت فيه الفتاة - دون رعاية أحد - في معترك الحياة ، ودعتها أساليب المدنية الغربية أن تتعرف على الرجل، وان تعيش معه وان تختبر أخلاقه لتصطاد منه زوجا تعيش معه، فكانت هي الفريسة الأولى للصائدين، وفي هذا العصر كثرت المشاكل الناجمة عن هذا الانطلاق والاختلاء، واستعصت على جميع الحلول التي يضعها فلاسفة الغرب، ورأى بعضهم فرارا من حل المشكلة بالطرق الإنسانية، فحاول أن يحلها بالطرق الحيوانية ، وذلك بالاستسلام لها، واطلاق الغريزة تعمل عملها، وتهوين أمر الفاحشة ،وعدم حسبانها إثماً تلام عليه الفتاة أو الفتى .
وقد ابتلى الوطن الإسلامي بهذا الداء، فأصبحت الفتاة في بعضه منطلقة هذا الانطلاق الكامل مع الشيطان، وفي بعضه الآخر تدفع بشدة كما تدفع الشاة إلى المسلخ ، لتلحق بأختها .
ولقد درس الإباضية هذه المشكلة منذ خير القرون، وانتهوا فيه إلى رأيهم الذي ينفردون به فيما اعرف ، فحرموا الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم ، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الذي يحارب الفاحشة .
روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ( أيما رجل زنى بامرأة ثم تزوجها فهما زانيان إلى يوم القيامة ) وهذا الحكم - حكم تحريم الزواج بين من ربطت بينهما فاحشة بطريق من الطرق - يغلق باب الخدعة أمام الشيطان وأمام الإنسان ، فلا يستطيع بعدها أن يأتي الرجل على امرأة فيغرر بها ويخدعها عن نفسها ، ويزعم لها أنه سوف يتم فعلته الشنيعة بالزواج . وهذا الحكم ينير الطريق أمام المرأة ، فيجعلها تعرف الصادقين من الكاذبين من الناس الذين يتصلون بها ، وكل من حاول أن يسبق الحوادث ويصل معها إلى نتائج الزواج قبل الزواج فهو كاذب أثيم، وخادع لئيم، يحق لها أن تفر منه ، وتبتعد عنه ، أما الرجل الذي يحترم فيها خلقها، ويصون لها عفافها ، ويحافظ على شرفها في نفسه فهو الرجل الصادق ، الذي يريد حقا أن يبني عش الزوجية ويحيا الحياة الكريمة .
ولو كان هذا الرأي - يعني تحريم زواج الزانيين - هو رأي جميع فرق الأمة وهذا الحكم حكمها لقل انحراف الفتاة عن القصد ، واستمسكت بطهرها وعفافها، ولم تتعد حدود البراءة ، اللهم إلا من فقدت الحياء، وأعدت نفسها لتحيا حياة دعارة وبغاء لأنها إذا كانت تعرف أنها سوف تحرم على الرجل الذي تَزِل معه ، وتحرم منه ، فلا يمكنه أن يتزوجها لأن الدين يحرم هذا الزواج ، فهي سوف تفكر كثيرا قبل أن تتساهل في أمر نفسها ، ثم هي تعلم انه لا يمكن أن يقدم على الزواج منها أحد آخر ، ومن ذا الذي يقدم على الزواج من امرأة لها ماضٍ أثيم ؟؟؟!!!!!
لقد عالج الإباضية موضوع التغرير بالفتاة قبل أن تقع في المشكلة .
فتأمل أيها القارئ الكريم هذا الرأي ، وزنه بميزان الشرع القويم، وميزان العقل الحكيم ، وميزان التفكير السليم ، وإن شئت فأضف إلى ذلك القاعدة الهامة التي وضعها الإمام العظيم مالك بن أنس للمعاملات، واشتهرت في كتب الفقه ( بباب سد الذرائع ) انتهى كلام المفكر الإسلامي علي يحيى معمر رحمه الله
ولا شك بأن هذا الكلام الذي تقدم لا يحتاج إلى تعليق لأنه البلسم الشافي لهذا الأمر الخطير ، فتأملوه أخوتي الكرام تجدون فيه البلسم الشافي والدواء الناجع لكل ما نعانيه اليوم .
والرسول صلى عليه وسلم يوصي من أصاب شيئا من هذه الذنوب فلم يطلع عليه أحد أن يستتر بستر الله ، يقول ( من أصاب منكم شيئا من هذه القاذورات فستره الله فليستتر بستر الله ) وفي الختام فباب التوبة مفتوح للجميع لكي يصلح عمله مع ربه فان الله يغفر الذنوب جميعا .
ولكن مهما تاب الزانيان من زناهما فلن يطمئن كل واحد منهما إلى الآخر ، والزواج إنما جُعل من اجل المودة والرحمة وأين المودة والرحمة مع هذه الخيانة، فليذهب كل واحد في طر يقه ، وليصلح ما بدر منه ، عسى الله أن يعفو عنه وأن يتوب عليه انه هو الغفور الرحيم
ومعذرة على الإطالة ، وعسى أن تكون فيها الفائدة المرجوة ، والسلام .

ليست هناك تعليقات:

ظلم

سرعة الانفعال تشير إلى استجابة الأفراد بشكل سريع وعاطفي لمواقف معينة، مما قد يؤدي إلى ردود فعل غير محسوبة. إليك بعض النقاط المتع...